للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وضعه بين يديه، فأخذت العُس، وشربت نصفه مخافة أن آتي على آخره فيعلمون بي، ثم ذبح شاة، وشوى منها، وأطعم الشيخ، وأكل هو والعبدان، وناموا، فثرت إلى الفحل، فأطلقت عقاله، وركبته، فاندفع بي، فتبعته الإبل، فما زلت ليلتي أسرع بها إلى الفجر، فلما تعالى النهار وإذا بفارس كأنه طائر، فتأملته فإذا به صاحبي، فنزلت، وعقلت الفحل، ونَثَرتُ كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل، فصاح بي: أطلق عقاله، فقلت: كلا، لقد خلفت نُسَيّات بالحيرة، وآليت أن لا أرجع إليهن حتى أفيدهن خيرًا أو أموت، فقال: إنك ميت، أطلق عقاله لا أم لك، فقلت: هو ما قلت لك، فقال: إنك لمغرور، انصب خطامه، واجعل فيه خمس عشر، ففعلت، فقال: أين تريد أن أضح سهمي، فأشرت إلى موضح، فرماه، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم، فرددت نبلي إلى كنانتي، وألقيت قوسي، ووقفت مستسلمًا، فدنا، فأخذ السيف والقوس مني، ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الذي شربت عنده اللبن، ثم قال: ما ظنك بي؟ قلت: أحسن الظن، قال: وكيف؟ قلت: لما لقيت من تعب ليلتك وقد أظفرك الله بي، قال: أفتراني أهيجك وقد بتَّ تُنادم مهلهلًا يعني أباه؟ فقلت: أزيد الخيل؟ قال: نعم، قلت: كن خير آخذ، قال: ليس عليك بأس، ولو كانت هذه الإبل لي لما ذهبت إلا بها، ولكنها لابنة مهلهل، ثم عاد إلى مكانه، وقال: أقم عندي مكرمًا، فإني على شرف غارة، ثم أغار على بني نمير بالملح، فاستاق مئة بعير، فدفعها إليَّ، وبعث معي الخُفَراء من ماء إلى ماء، حتى وردت الحيرة، فلقيني نبطي، فقال: أيسرك يا أعرابي أن لك بإبلك هذه بستانان من هذه البساتين؟ قلت: وكيف؟ قال: هذا زمن نبي يخرج فيملك هذه الأرض ويحول بينها وبين أربابها، حتى إن أحدهم ليبيع البستان بثمن بعير، قال: فما مضت إلا هنيهة حتى بعث الله رسوله فأسلمنا، وما مضت إلا مدة يسيرة حتى فتح الله علينا الحيرة، فاشتريت بثمن بعير من إبلي بستانًا بالحيرة (١).

قال أبو الفرج: كانت الحمى تعتري زيدًا دائمًا، وكان له أربعة بنين كلهم يقول


(١) الخبر في "الأغاني" ١٧/ ٢٥٥ - ٢٥٧.