فقال عمر: أمّا ولي الإمارةُ فلا، وأقطعه أرضًا بالبصرة ودارًا.
قال أبو بكرٍ الخرائطي: رحمةُ اللَّه على عمر، ما كان أنظرَه بنورِ اللَّه، وأفْرَسَه في ذاتِ اللَّه! كان واللَّهِ كما قال الشاعر:[من الطويل]
بَصيرٌ بأعقابِ الأُمورِ برأيه … كأنَّ له في اليوم عَينًا على غَدِ
وكما قال الآخر:[من السريع]
تَزيده الأيامُ إن ساعَفَتْ … شدَّةَ حَزْمٍ بتَصاريفها
كأنها في حالِ إسعافِها … تُسمعُه ضَجَّةَ تخويفها
وفي مثله يقال:[من الطويل]
يرى عَزَماتِ الرَّأي حتى كأنما … تُلاحِظُه في كلّ أمرٍ عَواقِبُهْ
قال: وذلك أن نَصر بن حجَّاجٍ لمّا نفاه عمر ﵁ إلى البصرةِ، كان يدخُلُ على مُجاشع بن مسعود السُّلَمي، وكان به مُعْجَبًا، وكان لمجاشعٍ امرأةٌ يُقال لها الخُضَيراء تكتبُ وتقرأ، وكانت من أجمل النساء، وكان مُجاشِعٌ لا يَصبِرُ عنها وعن نصر بن حجَّاج، وهو يومئذٍ على البصرةِ أميرٌ، فكان لشَغَفِهِ بهما يَجمعهما في مَجلسهِ، فحانت من مُجاشعٌ التفاتةٌ ونَصرٌ يَخُطُّ على الأرضِ خُطوطًا، فقالت الخُضيراء: وأنا، فعلم مجاشعٌ أنَّه جوابُ كلامٍ، وكان مُجاشعٌ لا يقرأ.
وانصرف نَصرٌ إلى منزلهِ، ودعا مجاشعٌ كاتبًا، فقرأ فإذا هو: إني لأُحبُّك حُبًّا لو كان فوقَك لأظلَّكِ، ولو كان تحتك لأقَلَّكِ، وبلغ نَصرًا من فعلِ مُجاشع بن مسعود فاستحيا لذلك، واشتد وجدُه بها، وظهر دَنَفُه، وعَظُمَتْ بَليَّتُه، وحلَّتْ رزِيَّتُه، والتحَف عليه الضَّنَى، وامتنع من الغِذاء حتى شارفَ الفَناء، ولزمَ بيتَه حتى صار كالفَرْخِ، فقال مجاشع لامرأته: اذهبي إليه فأَسْنِديه إلى صَدرِك، وأطعميه الطعام بيدك، فأبت، فعزم عليها فذهبت، ففعلت به ذلك، فلما تحامل نصر خرج من البصرةِ فلم يُوقف له على خَبَرٍ (١).
(١) اعتلال القلوب ٣٣٧ - ٣٣٩، وانظر طبقات ابن سعد ٣/ ٢٦٥، وأنساب الأشراف ٩/ ١٠٢ - ١٠٣، والدرة الفاخرة (٣٩٧)، ومجمع الأمثال ١/ ٤١٤ - ٤١٦، ومصارع العشاق ٢/ ٢٦٦، ٢٦٨ وفي حواشي تلك المصادر فضل تخريج.