وأما الهيثم بن عدي فإنه قال: أقام عمرو بفلسطين يَتربّص، ولم يَقدم على معاوية، فلما عزم معاوية على قتال أمير المؤمنين شاور أصحابه، فقالوا له: هذا أمرٌ عظيم لا يَتمّ إلا بعمرو؛ فإنه قَريعُ زمانه في الدَّهاء والمكر والخديعة، يَخدع ولا يُخدع، وكان معاوية يتَّهمه بأمير المؤمنين لما بدا منه في حقّ عثمان، فقال معاوية لأخيه عُتبة بن أبي سفيان: فما الرأي؟ قال: اكتب إليه، واخدَعْه بالمال والبلاد.
فكتب إليه معاوية: من معاوية بن أبي سفيان خليفةِ أمير المؤمنين عثمان إلى عمرو بن العاص صاحبِ رسول الله ﷺ وأميرِ عسكره بذات السَّلاسل، المعظَّمِ رأيُه، المفَخَّم تدبيرُه، سلام عليك، أما بعد: فقد علمتَ احتراقَ قلوب المؤمنين، وما أُصيبوا به من الفَجعة بقتل إمام المتَّقين، وما ارتكب جارُه من البغي، وامتناعه من نُصرته، وخِذلانه إياه، حتى قُتل في محرابه صائمًا، فيا لها من مُصيبة أوجبت على جميع المسلمين الطَّلبَ بدمه، وأنا أدعوك إلى الحظّ الجزيل من الثواب، والنصيبِ الأوفَر من الأجر، قتل مَن آوى قَتَلةَ عثمان.
فلما وقف عمرو على كتابه عرف مَقصودَه، فكتب إليه:
أما بعد، فإني قرأتُ كتابَك وفهمتُه، فأما ما دعوتَني إليه من خَلْعِ رِبْقةِ الإسلام من عُنقي، والتَّهوّر في الضلالة، وإعانتي لك على الباطل، واختراطِ السيف في وجه أمير المؤمنين؛ أخي رسول الله، ووصيِّه، وقاضي دينه، وصهرِه على ابنته، وأبي السبطين الحسن والحسين سيِّدَي شباب أهلِ الجنة، فمعاذ الله أن أشارِك في الغيّ والضّلال.
وأما قولك إنك خليفة عثمان فقد عُزلتَ بموته، وأما قولُك إني صاحب جيش رسول الله فإني لا أعتز بالتزكية، ولا أميل بها عن الملَّة، وأما نِسبتُك أمير المؤمنين إلى قتلِ عثمان، وزعمِك أن أصحاب رسول الله فَسَقة، وأنه أَشلاهم عليه، فهذا زُورٌ وبُهتان.
وَيْحك يا معاوية، ألم تعلم أن أبا الحسن بذل نفسه لله، وبات على فراش رسول الله ﷺ ليلةَ هجرته، يَفديه بنفسه، ويقيه بروحه، أليس هو القائل في حقّه:"أنت مني بمنزلة هارون من موسى""من كنت مَولاه فعليّ مَولاه" وكتابُك الذي هذا جوابُه ليس يَخدع ذا عقلٍ ودين، والسلام.