فلما قرأ معاوية كتابه يئس منه، فقال له أخوه عُتبة: لا تيأس منه، وعِدْهُ ومَنِّه، ورَغّبه في الولايات، وأشرِكْه في سُلطانك، وإلا لم تأمَنْه، فكتب إليه معاوية: [من الطويل]
جهِلتَ ولم تعلم مَحلَّك عندنا … فأرسلت سيبًا من عتاب ولا تدري
فثِقْ بالذي عندي لك اليوم آنفًا … من العزِّ والإكرام والجاه والقَدْرِ
فكتب إليه عمرو وقال [من الطويل]
أبي القلبُ مني أن يُخادع بالمكرِ … بقتل ابن عَفّانٍ أُجَرُّ إلى الكُفرِ
وإني لَعمري ذو دَهاءِ وفِطنةٍ … ولستُ أبيع الدِّينَ بالمال والوَفْرِ
أليس صغيرًا مُلكُ مصرَ تَبيعُه … هي العارُ في الدنيا على الآل من عمرو
فقال له عُتبة: أقطِعْه مصر فإنها ليست في يدك، ألا ترى أنه قد تعرَّض لها؟! فكتب إليه بعهده على مصر، فكتب إليه عمرو: [من الطويل]
مُعاويَ لا أُعطيك ديني ولم أنَلْ … به منك دُنيا فانظُرنْ كيف تَصنعُ
فإن تُعطِني مصرًا فأرْبِحْ بصَفقةٍ … أخذتَ به شيخًا يَضرُّ وَينفعُ
وبات عَمرو طول ليلته مفكّرًا، فدعا غلامًا له يُقال له: وَرْدان -وهو الذي يُنسب إليه سوق وَردان بمصر- فاستشاره فقال: إن مع علي آخرة ولا دنيا، وإن مع معاوية دنيا ولا آخرة، والتي مع علي تَبقى، والتي مع معاوية تَفنى، فقال: صدقتَ.
ثم أصبح فركب فَرسه ومعه ولداه عبد الله ومحمد، فعبد الله يَمنعه عن قَصْدِ معاوية، ومحمد يُريده أن يَقصد معاوية، فلما وصل إلى طريق تأخذ إلى المدينة، وطريق تأخذ إلى دمشق، وقف ساعة يُفكّر، ثم ضرب رأس فرسه إلى دمشق وقال: معاوية أرفقُ بنا من علي، فقدم على معاوية.
وقال الواقدي وابن إسحاق: ولما قدم جرير على معاوية بكتاب أمير المؤمنين استشار معاوية عَمرًا، فقال له: ما ترى؟ فقال عمرو: إنه قد أتاك في هذه البيعة رجلٌ من أعيان الصحابة، من عند خير الناس، ولستُ أرى لك أن تَدعو أهلَ الشام إلى الخلافة، فإن ذلك خطرٌ عظيم، حتى تتقَدّم قبل ذلك بتَوطين الأشراف منهم، وإشرابِ قلوبهم اليقينَ أن عليًّا قتل عثمان، ورأسُ أهل الشام شُرَحْبيل بن السِّمْط الكندي،