للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فأبى الأشعث وقال: قد رجعت العرب إلى أديانها، وما كانت تعبد [الآباء]، ونحن أقصى العرب دارًا من أبي بكر، أيَبعث أبو بكر إلينا الجيوش؟ فقال امرؤ القيس: إي والله، وأُخرى: لا يَدَعُك عاملُ رسول الله ترجع إلى الكفر، فقال الأشعث: مَن [قال:] زياد بن لَبيد (١)، فتضاحك الأشعث وقال: أما يَرضى زياد أن أُجيرَه؟ فقال امرؤ القيس: سترى.

ثم قام الأشعث فخرج من المسجد إلى منزله، وقد أظهر من الكلام القبيح ما أظهر، من غير أن يَنطق بالردّة، ووقف يَتربَّص إلى آخر الناس.

قال: وبايع لأبي بكر بعد الظهر، وصلّى بالناس العصر، ثم غدا على الصدقة -وهو أقوى نَفْسًا، وأشَدّ لسانًا مما كان- فمنعه حارثة بن سُراقة الكِنديّ أن يُصدّق غلامًا منهم، وقام فحلّ عِقال البكرة التي أُخذت في الصدقة، وجعل يقول: [من الرجز]

يمَنعُها شيخ بخَدَّيه الشَّيبْ

مُلَمَّعٌ كما يُلَمَّعُ الثَّوبْ

ماضٍ على الرَّيب [إذا كان الرَّيبْ]

فنهض زياد، وصاح في أصحابه المسلمين، ودعاهم إلى النُّصرة لله وكتابه، فانحازت طائفة من المسلمين إلى زياد، وجعل من ارتدَّ يَنْحاز إلى حارثة، فاقتتلوا أيامًا كثيرة.

وضوى إلى الأشعث بن قيس بَشَر كثير، فتحصَّن بمن معه في حِصن يقال له: النُّجَير، فحاصرهم زياد بن لبيد، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، فقال الأشعث: إلى متى نقيم في هذا الحصن؟ قد غَرِثْنا (٢) فيه وغَرِثَ عيالُنا، وهذه البعوث تَقدم عليكم ما لا قِبَل لكم به، والله لَلموت بالسَّيف أحسنُ من الموت بالجوع، ويؤخذ برَقَبة الرجل، فما يُفعَل بالمرأة؟

ثم نزل وأخذ الأمان، وبعث به زياد إلى أبي بكر في وَثاق، وقد ذكرنا القصّة في


(١) في (خ) و (ع): ربيعة، والمثبت من طبقات ابن سعد ٦/ ٢٣٢ وما بين معكوفات منه.
(٢) الغَرَثُ: الجوع.