للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وما أحسنَ ما قال ذو النون المصري، حين قيل له: أين أنت عن يوم ألَستُ؟ فقال: كأنَه الآن في أذني، وما أراد به سماع الصوت، وإنما أراد به تحقيقَ الإيمان والإقرار.

وسئل بعضهم عن أحوال الذرِّيَّة في يوم الميثاق، وأنهم كلهم اعترفوا، فكيف خرج بعضهم إلى الجحد؟ فقال: كلهم قالوا بلى، ولكن عمَّ بعضهم البلاء للقضاء السَّابق.

وفي هذا الوقت الذي أخرج الله ذرِّيَّة آدم رأى نورَ داود.

قال أحمد بن حنبل بإسناده عن ابن عباس، قال: لما نزلت آية الدَّين قال النبي : "أَوَّلُ مَن جَحدَ آدمُ، وذَلكَ لأنَّ الله لما مَسَحَ ظَهرَ آدمَ وأَخرَجَ ما هو ذَارئٌ إلى يَومِ القيَامةِ، فَجَعلَ يَعرِضُ ذرِّيَّته، فرأى رجلًا يَزهَر، فقال: يا ربِّ، مَن هذا؟ فقال: ابنُكَ داودُ، فقال: يا ربِّ، زِد في عُمرِهِ، فقال: لا إلَّا أن تَزيده من عُمرِكَ، وكان عُمرُ آدمَ ألفَ سنةٍ فزادَه أربعين سنة، فكتَبَ الله بِذلِكَ كِتَابًا وأَشهَدَ عليه الملائِكَةَ، فلمَّا احتضَرَ جاءَهُ ملكُ الموتِ فقال: قد بقِيَ لي من عُمري أربَعونَ سنةً، فقال: قد وهبتَها لداودَ، فقال: ما وَهبتُ فأَبرَزَ اللهُ الكِتابَ والشَّهادةَ". وفي رواية: "أتتهُ الملائكةُ" (١).

قال رسول الله : "جَحدَ آدمُ فَجَحدَت ذُريَّته" (٢) قال ابن عباس: فمن ثَمَّ اتُخِذَت الصِّكَاكُ (٣) والشهادات.

وقد أخرجه محمد بن سعد في "الطبقات"، وذكر إسناده كما ذكرنا، وزاد فيه: "فَأَكمَلَ الله لآدم ألفَ سنةٍ، ولداودَ مئةَ سنةٍ" (٤).

قال جدي في "المنتظم": الحديث محمولٌ على أنَّ آدم نسي لطول المدَّة، لا أنَّه كان ذاكرًا لذلك ثم جحد، لأنه يكون كذبًا، والأنبياء منزَّهون عن الكذب (٥).

قلت: إلا أنَّ النبي نصَّ على أنه جحد، والجحد يحتمل أن يكون معه نسيان ويحتمل أن لا يكون، فإن كان معه نسيان، فهو معذور، وإن لم يكن، فيحتمل أنَّ الله


(١) أخرجه أحمد في "المسند" (٢٢٧٠). ويزهر: يضيء وجهه حسنًا.
(٢) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" ١/ ٢٨ من حديث أبي هريرة.
(٣) الصك: الكتاب، وهو معرب.
(٤) "الطبقات الكبرى" ١/ ٢٨ - ٢٩، وانظر "المنتظم" ١/ ٢١٦.
(٥) لم نقف عليه في "المنتظم"، وانظر "التبصرة" ١/ ١٧.