فبلتُ فيه، فرأيت فارسًا مقنَّعًا بالحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه، وجئتهما وأخبرتهما، وقلت: رأيت كذا وكذا، فقالا: صدقت، ذاك إيمانك خرج منك، اذهبي.
قالت: فقلت للمرأة، والله ما أعلم شيئًا، ولا قالا لي شيئًا، قالت: بلى، لن تريدي شيئًا إلا كان، خذي هذا القمحَ فابذري، فبذرتُ، فقلت: اطلعي فطلعت، فقلت: الحقي فلحقت، فقلت: افركي ففركت، فقلت: اطحني فطحنت، فقلت: اخبزي فخبزت، فلما رأيت أني لا أريد شيئًا إلا كان، سُقط في يدي وندمت، والله يا أمَّ المؤمنين ما فعلت شيئًا قط ولا أفعله أبدًا، فسألَتْ أصحاب رسول الله ﷺ حداثة [وفاة رسول الله ﷺ] وهم متوافرون، فما دروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف وحذر أن يفتيها بما لا يعلم، إلا أنه قد قال لها ابن عباس أو بعضُ من كان عنده: لو كان أبواك حيَّين أو أحدهما.
قال ابن أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع، ولو جاءنا مثلها اليوم لوجدَتْ نَوكى أهلَ حُمْقٍ وتكلُّف بغير علم (١).
واختلفوا في كيفيَّة جواز تعليم السِّحر على الملكين، على قولين:
أحدهما: أنهما كانا لا يتعمَّدان تعليم السِّحر، ولكنهما يصفانه ويذكران بطلانه، ويأمران باجتنابه. ولكنَّ الشَّقي يتعلَّم منهما في خلال صفتهما، ويترك موعظتهما ونصيحتهما. فعلى هذا التأويل لا يكون تعلُّم السِّحر كفرًا، وإنما يكون العمل به كفرًا، كما أنَّ من عرف الزِّنا ولم يفعله لم يأثم وإنما يأثم الفاعل له.
والثاني: أنَّ الله ﷿ امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والإيمان، فيكفر بتعلُّمه، ويؤمر بترك التعلُّم، لأنَّ السِّحر كان قد كثر في تلك الأمَّة. ويزداد المعلِّمان عذابًا بتعليمه فيكون ذلك ابتلاء للمعلم والمتعلِّم. ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما ابتلى بني إسرائيل بالنَّهَر في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ﴾ [البقرة: ٢٤٩] ودليله قولهما: ﴿إنَّمَا نَحنُ فِتنَة﴾ وهذان القولان