للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكلامَ يدور بينك وبينه جوابًا، لا (١) تُثقل عليه. قال: فدخلتُ، وإذا بِشْرٌ على سرير، عليه فَرْشٌ قد كادَ أن يغوصَ فيها، وعلى رأسه رجلٌ قائم مُتَّكئ على سيف، فسلَّمتُ عليه، فقال: مَن أنتَ يا شيخ؟ قلت: الحسن. قال: فقيهُ هذه المَدَرَة؟ قلت: نعم. قال: فاجلسْ، ثم قال: ما تقول في زكاة أموالنا؟ أندفعُها إلى السلطان، أم إلى الفقراء؟ فقلتُ: أيَّ ذلك فعلتَ أجزأَك، فتبسَّم، ثم رفعَ رأسَه إلى القائم على رأسه وقال: لأمرٍ ما يسودُ مَنْ يسود. وجعل يُديمُ النَّظَرَ إليَّ، فإذا أقبلت بطَرْفي إليه؛ شغلَ طَرْفَه عنّي، وإذا مِلْتُ عنه صوَّب فيَّ النَّظَر، ثم قمت واستأذنتُ في الانصراف، فقال لي: مُصاحَبًا محفوظًا. ثم عُدْتُ إليه آخِرَ النهار وقد انحطَّ من سريره وهو يتململ، فقلت: ما للأمير؟ قالوا: محموم. فلما كان من الغد اجتزتُ بباب القصر، وإذا النَّواعي تنعاه، وقد جُزَّتْ نواصي الخيول والمسوح على العبيد، وأخرجت جنازته، فدفن إلى جانب سالم (٢) بن زياد. ومات في ذلك اليوم عبدٌ حبشيّ، فدفن إلى جانبه، ثم مَرَرْتُ بعد أيام فلم أُميِّز بين القبرين، فقلت: قبَّحكِ اللهُ من دنيا آخِرُها هذا.

وأنشدَ الحسن:

والعطياتُ عواري بينَهمْ … وسواءٌ بين مُثْرٍ ومُقِلّ (٣)

وجاء الفرزدق وبيده فرس (٤) يقودُه كان قد أعطاه إيَّاه بشرٌ، فلما دُفن؛ عقَرَه على قبره وقال:

أعيناي إلَّا تُسعداني أَلُمْكُما … فما بعدَ بِشْرٍ من عَزَاءٍ ولا صَبْرِ

ألم ترَ أن الأرض دُكّتْ جبالُها … وأنَّ نجومَ الليلِ بعدَك لا تسري

ستأتي أميرَ المؤمنين مصيبةٌ … وتمضي إلى عبد العزيز إلى مصرِ

بأنَّ أبا مروان بشرًا أخاكما … ثَوَى غير متبوع بمنٍّ ولا غَدْرِ


(١) في (ص): لئلا.
(٢) المثبت من (ص)، وهو كذلك في "تاريخ" دمشق ٣/ ٣٥٥، وفي النسخ الأخرى: سلمة. وفي "أنساب الأشراف" ٥/ ٣٦١: سَلْم.
(٣) تاريخ دمشق ٣/ ٣٥٧ (مصورة دار البشير).
(٤) في (ص): وقال الهيثم: ومشى الفرزدق في جنازته وبيده …