للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فاعتَنَقَني، وقبَّل ما بين عينيّ وقال: إذا جزى الله المتآخِيَين بفضل تَواصلِهما، فجزاك الله أفضلَ الجزاء، فواللهِ لئن سلمتُ لك؟ لأرفعنَ ناظريك، ولأُعْلِيَنَّ كَعْبَك، ولأُتبِعنَّ الرجال غُبارَ قدميك.

قال: فقلت في نفسي: إنه ليسخرُ بي، فلما وصلتُ إلى عبد الملك أدنى مجلسي كما فعلَ في الأوَّل، ثم قال: يا ابنَ طلحة، هل أعلمتَ الحجَّاج بما جرى، أو شاركك أحدٌ في نصيحتك؟ فقلت: لا والله، ولا أعلمُ أحدًا أظهرَ يدًا عندي من الحجَّاج، ولو كنت مُحابيًا بديني أحدًا لكان هو، ولكني آثَرْتُ اللهَ ورسولَه والمسلمين، فقال: قد علمتُ صِدْقَ مقالتِك، ولو آثرتَ الدنيا لكان لك في الحجَّاج أمل، وقد عزلتُه عن الحَرَمَين لمَّا كرهتَ ولايتَه عليهما، وأخبرتُه أنك أنتَ الذي استنزلتني [له] عنهما استصغارًا لهما، وولَّيتُه العراقَين لِما هنالك من الأمور التي لا يُرخِصُها إلا مثلُه. وإنما قلتُ له ذلك ليؤدِّيَ ما يلزمُه من ذِمامك [فيؤدّيَ به إليك عني أجرَ نَصِيحتِك] فاخْرُجْ معه، فإنك غيرُ ذام لصحبته مع يدك عنده.

قال: فخرجتُ مع الحجاج، فأكرمَني أضعافَ إكرامِه وإحسانِه إليّ (١).

وقد دَلَّت هذه الحكاية على مكارم عبد الملك، وحسنِ أخلاقه، واعترافِهِ بالحقّ، وتلطُّفه في الأمور.

[وقد أساء إبراهيم حيث قابل إحسان الحجَّاج إليه وثناءه عليه عند عبد الملك بمثل هذا، وقد كان الواجب عليه أن يتلطَّف في القضيَّة، ويتوصَّل إلى عبد الملك في عزل الحجَّاج عن الحَرَمَين بالوجه الذي ذكره عبد الملك وغيره] (٢).

[قال البلاذري:] ولما فرغ الحجاج من خطبته قال: قُوموا إلى البيعة. فقاموا قبيلةً قبيلة، فبايعوا، حتى جاءت قبيلةُ النَّخَع، فقال: أمِنكم الكُمَيل بن زياد؟ قالوا: نعم. قال: لا بيعةَ لكم عندي حتى تأتوني به، فقالوا [له]: إنه شيخ كبير، فقال: لا بدَّ منه. فجاؤوا به على نعش، فوضعوه إلى جانب المنبر، فقال الحجَّاج: لم يبق ممن دخل على عثمان غير هذا، فقدمه فضرب عنقه.


(١) ينظر "تاريخ دمشق" ٢/ ٥٠٨ - ٥٠٩ (مصورة دار البشير). وما سلف في الخبر بين حاصرتين من (ص).
(٢) ما بين حاصرتين من (ص)، ولم يُصب قائله.