للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لو لَبِس جُبَّة من ذهب لرؤيت عليه زَهادة، وكان إذا أخذ في التسبيح لم يسمع الناس كلامًا أفصح منه ولا أحسن (١)، وكان يسكن حُولَة بانياس وأبوه بدمشق (٢).

فعرض له إبليس، فأراه أشياء، فكتب إلى أبيه إلى دمشق: يا أبتاه، عَجِّل علي واقدم، فقد رأيتُ أشياء، وأخاف أن يكون الشيطان عرض في، فزاده أبوه طغيانًا، وكتب إليه: يا بني، أَقبِل على ما أنت عليه؛ فإن الله لا يُنَزّل الشياطين إلا على كلّ أفَاك أثيم، ولستَ بأفّاك ولا أثيم.

فادّعى النبوَّة، وأظهر العجائب، فكان يأخذ بيده رُخامة؛ فينقرها فتسبّح، ويطعم الناس فاكهة الشتاء في الصّيف، وفاكهة الصَّيف في الشتاء، ويريهم رجالًا على خيل بُلْق، ويقول: هذه الملائكة. فتبعه خلق كثير، وكان يأخذ عليهم العهود والمواثيق أن يكتموا أمره.

وشاع خبرُه، وبلغ عبد الملك بن مووان فاتّهم عامة عسكره به وأنهم على رأيه، فدعا أبا إدريس الخَولاني، وكان على قضاء دمشق، وجمع الفقهاء فأفتَوا بقتله، فطلبه فلم يقدر عليه، فخرج عبد الملك فنزل الصِّنَّبْرَة (٣)، وهرب الحارث من بانياس إلى البيت المقدس فاختفى فيه.

وكان للحارث أصحابٌ يدخلون عليه سرًّا، وكان قد أتى رجل من أهل البصرة إلى البيت المقدس زائرًا، وبلغه خبره، فتحيّل عليه حتى اجتمع به، فقال: من أين أنت؟ قال: من البصرة، فأنِس به وباسطه، فقال له البصري: ما أنت؟ فقال: نبيٌّ مُرسَل، قال: فقد آمنتُ بك وصدَّقت؛ فلا تحجبني عنك، فأجابه إلى ذلك، فكان البصري يتردّد إليه.

وكان قد حفر أسْرابًا مثل أسراب اليربوع ليهرب منها إذا اطُّلع عليه، فما زال البصري يتردّد إليه حتى عرف الأماكن التي يهرب منها، وقال له: ائذن لي في المسير إلى البصرة لأدعو الناس إليك منها، فأذن له.


(١) في (أ) و (ب) و (خ) و (د): كلامًا أحسن منه لفصاحته.
(٢) في المصادر أن أباه كان في حولة بانياس وهو بدمشق.
(٣) موضع بالأردن، بينه وبين طبرية ثلاثة أميال. كما في معجم البلدان، ووقع في (ص): "الصُّبيرة" وهو موضع بالشام، ولم تجود الكلمة في "تاريخ دمشق" ٤/ ١٠١ وانظر مختصره ٦/ ١٥١.