فخرج فأتى سُرادق عبد الملك وهو بالصِّنَّبرة، فصاح: نصيحة، فأدخل عليه، فقال له: ما نصيحتُك؟ قال: أخلِني، فأخلى المكان، فدنا منه، وكان عبد الملك على سريره، وقال: ما عندك؟ قال: الحارث، فلما ذكر الحارث رمى عبد الملك بنفسه عن السرير وقال: أين هو؟ قال: بالقُدس، وقصّ عليه قصَّتَه، فقال: أنت أمير على من هنا وعلى من بالقدس، فمرني بما شئت، قال: ابعث معي أربعين رجلًا لا يفهمون الكلام، فبعث معه أربعين من فَرْغانة، وكتب إلى والي القدس: إن فلانًا الأمير عليك حتى يخرج، فأَطِعه فيما يأمرك به.
وجاء إلى القدس، فرتّب الرجال على الأماكن التي يهرب منها ليلًا، ودفع إلى كل واحد تسعة، ثم دخل عليه، فطلبه فلم يجده، فسأل عنه فقالوا: رُفِع، فدخل بعض الأسراب فرآه، فأخذه وأوثقه، ووكل به الفَرغانيين، وسار إلى عبد الملك فأخبره، فنصب له خشبة، فقال الحارث للفَرغَانيين: ﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾ [غافر: ٢٨]، فقا لوا: هذا كُرآننا -بالكاف- فأين كرآنك؟
ولما وصل إلى الصِّنَّبرة أمر عبد الملك رجالًا، فدخلوا عليه فوعظوه ونهوه، وخوَّفوه الصَّلْب فلم يقبل، فأمر بصَلْبِه، وطُعن برُمح فانثنى الرُّمح ولم يعمل فيه، وكانت قد أصابت الحربة ضِلعه، فصاح الناس: الأنبياء لا يَعمل فيهم السلاح، فقال عبد الملك للذي طعنه: اذكر اسم الله وقد نفذت الحربة، فذكر وطعنه فقتله.
ولم يكن خالد بن يزيد بن معاوية حاضرًا، فلما حضر قال لعبد الملك: لو كنت حاضرًا لما مكَّنتُك من قتله، قال: ولم؟ قال: كان يَعتادُه المُذهب -يعني: الشيطان- فلو جَوَّعتَه ذهب عنه.
ولما قتله عبد الملك قال العلاء بن زياد: ما غَبطتُ عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله الحارث؛ لحديث رسول الله ﷺ:"لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالًا كذابون، كلّهم يزعم أنه نبي، فمن قتل واحدًا منهم دخل الجنة".
قلت: وقد أخرج البخاري ومسلم بمعناه عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالًا كذابون، كلّهم يزعم أنه رسول الله".