للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورجع محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وخلَّيا العراق للحجاج.

وجاء الحجاج حتى دخل الكوفة، وجاء الناس يبايعونه، فكان يقول للذي يبايعه: اشهَدْ على نفسك بالكفر، فإن شهد وإلا قتله، فأتاه رجل من خَثْعَم كان قد اعتزل الناس من وراء الفرات، فقال: اشهد على نفسك بالكفر، فقال: ما زلتُ معتزلًا للناس من وراء هذه النُّطْفَة، منتظرًا ما يكون، حتى ظهرتَ فأتيتُك، فقال: اشهْد على نفسك بالكفر، فقال: إن كنتُ عبدتُ ربّي ثمانينَ سنة، ثم أشهد على نفسي بالكفر؛ لبئس العبدُ أنا، والله ما بقي من عُمري إلا ظِمْءُ حِمار، وإنني أنتظر الموتَ صباحًا ومساء، فأمر به فضرب عنقه (١).

وأُتي بآخر بعده فقال الحجاج: ما أظنُّه يَشهد على نفسه بالكفر، فقال: يا حجَّاج، أخادعي أنت عن نفسي، أنا أعرف بها منك، بلى، أنا أكفَرُ من فرعون وهامان، فضحك الحجاج وخلَّى سبيله، وأقام الحجاج بالكوفة.

وفيها كانت الوقعة بمَسْكِن بين الحجاج وابن الأشعث بعد الجماجم.

خرج عبد الرحمن بن الأشعث حتى قدم البصرة، واجتمع إليه فَلُّ أهل الكوفة والبصرة والأمصار، وتلاوموا على الِفرار، وبايع أكثرهم على الموت، وجاء الحجاج بجيوشه، ونزل ابن الأشعث بمَسْكِن على دُجَيل الأهواز، وخَنْدَق عليه، وبَثَق الماء من جوانبه، فلم يجعل القتال إلا من مكان واحد، فاقتتلوا خمسَ عشرة ليلة من شعبان أشدَّ القتال.

وكان على مَسالح الحجَّاج زياد بن غُنَيم القمي (٢)، وكان شجاعًا، فقُتل، فهدَّ قتلَه الحجّاج، وأصبح الحجاج ذات ليلةٍ وقتَ السحر، فقاتلهم فظَهر عليهم، وقُتل أبو البَخْتَريّ الطّائي وابن أبي ليلى وقالا [قبل أن يُقتلا]: إن الفِرار (٣) بنا كلَّ ساعةٍ لَقَبيح.

وانهزم أصحابُ ابنِ الأشعث، فلما رأى ذلك بِسطام بن مَصْقَلَة الشَّيبانيّ؛ بايع على الموت أربعةَ آلاف من أهل الحِفاظ من أهل المِصْرَين، وكَسروا جُفونَ سيوفهم، وقال


(١) انظر "تاريخ الطبري" ٦/ ٣٦٤ - ٣٦٥. وقولُه: إلا ظِمءُ حمار؛ الظِّمْءُ، ما بين الشُّرْبين، أي لم يبق إلا اليسير، لأن الحمار قليل الصبر على الظمأ.
(٢) كذا، وفي الطبري ٦/ ٣٦٦: القيني.
(٣) في النسخ: وقال إن الفرار، والمثبت من الطبري ٦/ ٣٦٧.