للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

على الجزيرة ولا تعزِلْه، وأخوك عبد الله لا تؤاخذه، وأقِرَّه على مصر، وانظر إلى ابنِ عمِّنا علي بن عبد الله بن عباس؟ فإنه قد انقطع إلينا بمودَّته، وله نسبٌ وحق وفضل، فاعرف حقَّه وقَدْرَه، وأحسن صُحبته وجِواره، واحفظ الحجاج فإنه هو الذي وَطَّأ لنا البلاد، وذلل لنا العباد، وهو سيفُك ويدُك على مَن ناوأك، ولا تسمعنَّ فيه قول قائل، وخذ سيفي هذا، فبه قتلتُ عَمرًا، وخذ الناس بالبيعة، فمن قال برأسه كذا فقل بسيفك كذا. ثم تمثلَ بقول عَديِّ بن زيد العِباديّ: [من الوافر]

فهل من خالدٍ إمّا هَلَكْنا … وهل بالموتِ ياللناسِ عارُ

يا وليد، ليس بين السلطان وبين أن يملك رعيتَه أو تملكه إلا حَزْمٌ أو تأن، يا وليد، كلّكم يترشَّح لهذا الأمر، ولا يَصلُح له إلا من كان له سيفٌ مَسْلول، ومال مَبذول، وعَدلٌ تطمئن إليه النفس، وصدقٌ تميل إليه القلوب

ولما احتُضر كان في مَنْظَرَةٍ له تُشرف على بردى، فنظر إلى غَسَّالٍ يغسل الثياب فقال: يا ليتني مثلَ هذا الغسَّال، أكتسب ما أعيش به يومًا بيوم، ولم أَلِ الخلافة. ثم تمثّل بقول أمية بن أبي الصلت: [من الخفيف]

كلُّ عيشٍ وإن تطاولَ يومًا … صائرٌ أمرُه إلى أن يَزولا

ليتني كنتُ قبل ما قد بدا لي … في قِلالِ الجِبالِ أرْعى الوُعولا

فبلغ قوله أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم وقتَ الموت يتمنَّون ما نحن فيه، ولم يجعلنا نتمنّى ما هم فيه.

وقال الشعبي: بلغني أنه قال عند الموت (١): [من الطويل]

لَعَمري لقد عُمِّرتُ في المُلْكِ بُرْهَةً … ودانتْ ليَ الدُّنيا بوقْعِ البَواتِر

فأضحى الذي قدكان مما يَسُرُّني … كَلَمْح مضى في البارقات الغوابِرِ

فيا ليتني لم أَغْنَ في الملك ساعةً … ولم أَلهُ في اللذاتِ عيش النَّواضِر

وكنتُ كذي طِمْرَين عاش ببُلغَةٍ … من العيشِ حتى زار ضَنْكَ المقابِرِ

ثم جعل يبكي ويقول: ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٨ - ٢٩].


(١) في (أ) و (خ) و (د): وقال عبد الملك عند الموت يتمثل، والمثبت من (ص). والخبر في "تاريخ دمشق" ٤٣/ ٢٧٦ عن غير الشعبي.