للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أما بعد، يا ابن المتَمَنِّية، فإني عَلِمتُ فتعامَيتُ، وسمعتُ فتَصامَمتُ، وقد أصبحتُ بأمرك مُتَبَرِّمًا يُقعدني الإشفاق، ويُقيمني الرَّجاء، وقد أشركتك فيما طَوَّقَني الله حَملَه من أمانة الخَلْق، وظننتُ بك الحزم، والأخذ في إحياء سنة، وإماتة بِدعة، فقعدتَ عن الأولى، وقُمتَ في إحياء الثانية، حتى صِرتَ حُجَّةً للغائب، وعذرًا للّاعن، فلعن الله أبا عَقيل وما نَجَل، ولَعَمري ما ظَلَمكم الزمان، ولا قَعدت بكم الرُّتَب، وكنتم بين حافرِين وماتح قَليب، وما الطَّائفُ منكم ببعيد.

ثم عوّل أميرُ المؤمنين بإخراجك من أعوان رَوْحِ بن زِنْباع وشُرطَتِه، فهفا أميرُ المؤمنين -والله يُصلحه- فكان ما كان منك من مُخالفته، والفتك في الأمة، وبَسَطْتَ يدَك تَحقِن بها من كرائم ذوي الحقوق اللازمة، والأرحام الوَاشجة، وتضعه في أوعية ثقيف، وقد كان رسول الله ائتَمَن ثقيفًا على الصدقات فخانوه (١)، كما فعل بأمير المؤمنين فيما نَصَّبَك به ظَنُّه. فاعتزل عمَلَ أميرِ المؤمنين، واظْعَن عنه باللّعنة اللازمة، والعقوبة المُهلِكَةِ النّاهكة إن شاء الله تعالى.

ثم دعا عبد الملك مولاه نُباتة فقال: خذ هذا الكتاب، وسِر إلى الحجاج فناولْه إياه، فإن غضب عند قراءته فاعزِلْه، وأحضِره إليَّ خاسئًا مَذمومًا، وإن هشَّ للجواب فأقِرَّه على عَمله.

فلما قدم نُباتة على الحجاج أعظم قدومه؛ لأنه ما كان يُفارق عبد الملك، فقال له الحجاج: ما الذي أقدمك؟ فناوله الكتاب، فلما قرأه هش إليه، وكتب جوابَه، وأجاز نُباتة بجائزةٍ سَنيَّة، ورَدَّه إلى عبد الملك.

فسار من يومه، فقدم على عبد الملك، فقال له: ما استَقَرَّ بك المَضْجَع؟! فقال له نباتة: من خاف أدلَج، وناوله الكتاب، فقرأه وابتسم، ثم رمى به إلى نُباتة، وإذا فيه:


(١) كذا وقع وهو خطأ صوابُ أن النبي صالحًا بعث ثَقِيفًا على الصدقات … وسلف ص ٦٤، وفي "العقد الفريد" ٥/ ٢٢: فلئن استقال أمير المؤمنين فيك الرأي فلقد جالت البصيرة في ثقيف بصالح النبي ؛ إذا ائتمنه على الصدقات، وكان عبده فهرب بها عنه.