للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقال الحجاج: لله درُّ أبيك، مِطعامٌ للطعام، مُقَدَّمُ الكِوام، وقال للآخر: وأنت؟ فقال: [من الطويل]

أنا ابنُ الذي يَعلو الرجالَ بسيفه … ويضربُ أعناق الأُسودِ القَشاعِمِ

ولا ذاك من ذَحْلٍ ولا هو ثائرٌ … ولكنه حاوي الغِنى والمكارمِ

فقال: لله درُّ أبيك من شُجاعٍ مِطعان، مُجَدِّلِ الأقران، ثم مضى ولم يعرض لهما.

فلما كان من الغد دخل عليه أيّوب بن القِرِّيَّة، فذكر ذلك له، فضحك أيوب وقال: بلغني أنه كان لتاجرٍ على شاعر دَين فمَطَله، فتعلَّق به التاجر فقال: إما أن تدفعَ إليَّ حَقِّي، وإما أن تهجوَ نفسَك، وإما أن تمدحَني، فقال الشاعر: أما الحق فأنا عاجز عنه، وأما هجو نفسي فلا أتناول عرضي، وأما مدحُك فنعم، وكان التاجر ابنَ حجَّام فقال: [من المنسرح]

أبوك أوهى النّجاد عاتقه … كم من كَميٍّ أدْمى ومن بَطلِ

يأخذُ من ماله ومن دمِه … لم يُمس من ثائرٍ على وَجَلِ

بكفِّه مُرهفٌ يقلِّبُه … يضربُ أعناقَ سادةٍ فُضُلِ

والله إن أحدهما ابنُ حجَّام، والآخر ابن باقِلاوي، فغضب الحجاج، وطلب الغلامين فجيء بهما فقال: والله لا يُنجيكما إلا الصِّدق، فاعترفا فأطلقهما.

[وذكر الزمخشري في "ربيع الأبرار" قال:] تغدَّى الحجاج عند عبد الملك، ثم دعا عبد الملك بشراب فقال الحجاج: أعفِني؛ فأنا أضرب مَن يشربه بالعراق، ووالله لئن شربتُه لا أضرب عليه أحدًا قط، فقال عبد الملك: أما إنه نَبيذ الرُّمّان، يُشهّي الطعام، ويزيد في الباه، فقال الحجاج: أما كونه يشهي الطعام؛ فوالله لوَددت أن هذه الأكلة تكفيني حتى أموت، وأما كونه يزيد في الباه؛ فحسب الرجل أن يُصرَع في الشهر مرة.

وحضر عند الوليد فأُحضر النّبيذ، وأمره بشُربه فقال يا أمير المؤمنين، الحلال ما أحللتَ، ولكني أنهى عنه أهلَ عملي، وأكره أن أُخالف قول العبد الصالح: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ (١) [هود: ٨٨].


(١) "تاريخ دمشق" ٤/ ٢٣٢ (مخطوط).