وهذا الزَّمان أحبُّ ما يكون الولد إلى والده، لأنَّه قد استغنى عن الحضانة وكلفة التربية، ولم يبلغ إلى حالة العقوق، فكانت البلوى به أشدَّ. فقال له: يا بنيَّ، انطلق بنا نقرِّب قربانًا، فأخذ سكينًا وحبلًا وانطلق معه، حتى إذا كان بين الجبال قال له الغلام: يا أبتِ، أين قربانك؟ فقال: ﴿يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَال يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ [الصافات: ١٠٢] الآية.
فإن قيل: فهل يجوز ذبح مثل ذاك الغلام بمنام، وقد كان جبريل يأتيه بالوحي شفاهًا لا في الأحلام؟ فالجواب: إنَّ الإنسان يكره أن يواجه بذبح ولده، فترك مخاطبة جبريل بذلك من باب الاحترام والإجلال والإعظام، وأمَّا منامات الأنبياء ﵈ فحقّ لأنها وحي على لسان ملك الرؤيا، وتارة يخاطبهم الله تعالى بما فيه مصالح الأنام.
وقال علماء السِّير ممن سمَّينا: لمّا رأى إبليس ذلك قال: لئن لم أفتنْ إبراهيم اليوم وولده وسارَة، وإلا لم أظفر منهم بشيء أبدًا، فأتى أتمَ الغلام فقال لها: هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: ذهب يحتطب لنا من هذا الشعب، قال: والله ما ذهب به إلا ليذبحه، فقالت: كلَّا هو أرحم به وأشدّ حبًّا له، قال: يزعم أنَّ الله أمره بذلك، فقالت: إن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربَّه، سلَّمنا لأمر الله وقضائه. فلمَّا يئس منها أتى الغلام وهو يمشي وراء أبيه فقال له: يا غلام، هل تدري أين يَذْهَبُ بك أبوك؟ قال: نعم يحتطب لأهلنا من هذا الشعب، فقال: لا والله، ما يريد إلّا أن يذبحك، قال: ولم؟ قال: يزعم أنَّ ربَّه أمره بذلك، قال: فليفعل ما أمره ربّه به، سمعًا وطاعةً. فلمَّا يئس من الغلام أتى إبراهيم فقال: أيها الشيخ، أين تريد بهذا الغلام؟ قال: أريد هذا الشعب لحاجة لنا فيه، فقال: والله إني لأرى أن الشيطان جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك، فعرفه إبراهيم فقال له: إليك يا خبيث عني، فو الله لأُمضينَّ أمر ربي. فرجع عدوّ الله خاسئًا خاسرًا لم يبلغ من سارَة والغلام وإبراهيم ما أراد (١).
وقال ابن عباس: فلمَّا علم الغلام أنه ذابحه قال له: يا أبة، اشدد رباطي لئلا أضطرب، واكفف ثيابك عن دمي لئلا يصيب ثوبك فتراه أمي فتحزن، وأسرعْ مرَّ