للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السكين على حلقي ليكونَ أهونَ للموت عليَّ، وإذا أتيت أمِّي فأقرئها السَّلام عني، واذكرْ لها ثواب الصابرين. فأقبل إبراهيم يقبِّله ويبكي ويقول: نعم العونُ أنت يا بُنيَّ على أمري، والغلام يبكي، وضجَّتْ ملائكة السماء بالبكاء، فقال الله: يا ملائكتي، انظروا إلى عبدي استحقَّ الخُلَّة أم لا؟ فقالوا: إلهنا، لو كنَّا مكانه لم نصبر.

وإنما قال له: ﴿فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: ١٠٢] ليختبر ما عنده من الرَّأي في أمر الله فإن أجاب حزن عليه، وإن امتنع لم يحزن عليه. فلمَّا قال له: ﴿يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ ازداد بلوى بفراقه. ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا﴾ أي: استسلما لأمر الله ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ [الصافات: ١٠٣] أي: صرعه على جنبه فصار أحد جَبينَيهِ على الأرض -وهما جبينان والجبهة بينهما، والعوام تسفي الجبهة جبينًا- فأمرَّ السِّكين على حلقه فلم تعمل شيئًا، وضرب الله على حلقه صفيحة نحاس فانقلبت السكين، فناداه الغلام: يا أبت، اقلبني على وجهي فلعلك تستحي أو تدرك رقة فتحول بينك وبين أمر الله وضجَّت السَّماوات والأرض ومن فيهما لما رأوا من صبر الغلام. فبينما هو كذلك قلب الله الشفرة ونودي الخليل ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ [الصافات: ١٠٥] فالتفت فإذا بكبش أملح من الجنَّة قد رعى فيها أربعين خريفًا. وقال مقاتل: هو الكبش الذي قرَّبه هابيل، جاء به جبريل.

وروى أبو الطفيل عن ابن عباس: أنَّ إبراهيم فدى ابنه بكبشين أبيضين أعينين أقرنين حكاه جدِّي في "التبصرة" (١).

فخلى عن الغلام وجعل يقبِّله ويبكي ويقول: اليومَ وُهبت لي يا بنيَّ، واشتغل بذبح الكبش عنه، فحلَّ جبريل كتافه فالتفت إبراهيم فرآه فقال: من حلَّ كِتافك؟ فقال: الذي جاءك بالكبش.

وقال أهل المعاني: هذا جواب إبراهيم لما ذهب إسماعيل ليأتيه بالحجر الأسود وجاءه جبريل به، وجاء إسماعيل فقال: يا أبت، من أين لك هذا؟ قال: جاءني، به من لم يكلني علي بنائك (٢).


(١) انظر "التبصرة" ١/ ١٣٨، وعرائس المجالس ٩٦.
(٢) انظر تاريخ الطبري ١/ ٢٧٣ - ٢٧٦، و"عرائس المجالس" ص ٩٠.