وقام عبد الله بن حسن فخرج، وخرج خلفه ابن هرمة وقد تَجَوّز في الإنشاد، فلحق عبد الله فقبَّل رِكابه، فقال له: وَيحك، أما استحييتَ منّي تقول لابن مروان: وكان أبوك قادمةَ الجناح وأنا حاضر؟! وأبي الحسن بن علي، وأمي فاطمة بنت رسول الله ﷺ، فقال له ابن هرمة: فقد قلتُ في إثر هذا البيت:
ولكن عُتبةٌ عتِبتْ علينا … وبعضُ القول يَذْهب في الرِّياحِ
فضحك عبد الله وقال: قاتلك الله ما أظْرَفَك. وقيل: لم يكن هذا البيت في القصيدة، وإنَّما ارتجله ابن هرمة.
وحكى أبو الفرج الأصفهاني قال: قيل لابن هَرْمَة: بم استحقَّ منك عبد الواحد أن قلتَ فيه:
أعبد الواحد المأمول إنِّي
فقال ابن هرمة: إن ذهبنا نُعَدِّد صنائعَه التي يستحقُّ بها هذا القول أطلْنا، ولكن أُخبركم ببعض صنائعه عندي؛ كان واليًا على المدينة، وكانتُ مُنقطعًا إليه فأغناني عن مَن سواه، فعُزل عن المدينة، فظننتُ أنَّ مَن يلي بعده يكون مثله، فأقمتُ أغدو وأروح إلى الوالي إلى أن لم يبقَ لي شيء، وتعذَّر عليَّ القُوت، فقلت لأختي: أما تَرينَ ما نحن فيه، فمن أَقصِد؟ قالت: ما أُشير عليك إلَّا بعبد الواحد بن سليمان.
فباعت حُليَّها واشترت لي راحلة، فركبتُها وسرتُ حتَّى قدمتُ دمشق، فسألتُ عن عبد الواحد فقيل: هو في المسجد، فأَنَخْتُ راحلتي، ودخلت فسلَّمتُ عليه، فرحّب بي وقال: يا أبا إسحاق، كيف خبرك بعدنا؟ قلت: تلاعبتْ بي المِحَن، وجفاني الأخِلَّاء، ونأى بي الوطن، فلم أجد مَن أَفْزَع إليه في الشدائد إلَّا إليك، ولا مُعَوَّلًا إلَّا عليك، فوالله ما بادرني إلَّا بدمعته، وأومأ إلى فتيان من أولاده فذهبوا.
ثم عاد الأول ومعه كيس يحمله خادم، فصبَّه في حجري، فقال عبد الواحد: كم هذا؟ قال: ألف وسبع مئة دينار، والله ما عندنا غيره.