للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مُزْهِر، وربيعٍ مُونِق (١)، فهو أحسنُ منظرًا في صعيد كأنَّ ترابَه قِطَعُ الكافور، وقد ضُرب له فُسطاط فيه أربعةُ فُرُش من خَزّ أحمر، وعليه دُرَّاعةٌ (٢) حمراء، وعِمامةٌ حمراء من خَزّ، وقد أخذَ الناسُ مجالسَهم، فأخرجتُ رأسي من ناحية السِّماط (٣)، فنظرَ إليَّ كالمستنطق لي، فقلت: أتمَّ اللهُ عليك النعمة، وألهمَك الشُّكْر، وجعلَ ما قَلَّدَك من هذا الأمر رَشَدًا، وعاقبةَ ما تؤولُ إليه حَمْدًا يُخلصُه لك بالتُّقَى، فيدومُ لك بغير كَدَر عليك فيه، فقد أصْبَحْتَ للمسلمين ثقةً، ومُستراحًا يستريحون إليك في أمورهم، فجعلني الله فداك، ولقد منَّ الله عليَّ بالنظر إليك، وما أجدُ يا أمير المؤمنين شيئًا هو أبلغ من حديثِ مَنْ سلفَ قبلَك من الملوك، ذلك هديَّة على ما أولى الله من الاجتماع بك، وكيف جعلني الله أهلًا لذلك (٤)، فإنْ رأى أمير المؤمنين أن يسمعَ مني ذلك أخبرتُه.

قال: وكان هشام متَّكئًا، فاستوى جالسًا وقال: هاتِ يا ابنَ الأهتم. فقلت: إن ملكًا ممَّن كان قبلك خرج في عام مثلِ عامِنا هذا إلى الخَوَرْنَق والسَّدِير (٥)، فنظر فأبعد النظر، فقال لجلسائه: هل رأيتُم مثلَ ما أنا فيه؟ قال: وعنده رجلٌ من بقايا حَمَلَةِ الحُجَّة على أدب الله ومنهاجه، ولن تخلوَ الأرضُ من قائمٍ للهِ بحُجَّة.

وذكرَ ابنُ الأهتم الموعظة التي ذكرناها في باب ملوك الحِيرة، وأنَّ ملكَ الخَوَرْنق والسَّدِير تزهَّد. وأنشدَ أبياتَ عديّ بن زيد العِباديّ التي أوَّلها:

أيُّها الشَّامِتُ المُعَيِّرُ بالدَّهْـ … ــرِ أَأَنتَ المُخَلَّدُ المَوْفُورُ


(١) أي: يُعجبُ الناظرين إليه.
(٢) الدُّرَّاعة: جُبَّةٌ مشقوقة المقدَّم.
(٣) أي: الصَّفّ، أو ما يمُدُّ ليوضع عليه الطعام.
(٤) كذا وقعت سياقة الكلام من قوله: فجعلني الله فداك ولقد منَّ الله عليّ … إلى هذا الموضع في (ب) و (خ) و (د) (والكلام منها) وتنظر سياقتُه في "تاريخ دمشق" ٥/ ٤٦٤ (مصورة دار البشير)، و"المنتظم" ٧/ ٢١٦ فهي أولى.
(٥) الخَوَرْنق: قصر كان بظهر الحِيرة، أمر ببنائه النعمانُ بن امرئ القيس الأكبر، بناه له رجل من الروم يقال له: سِنِمَّار، وله معه قصة ومَثَل. والسَّدِير: نهر أو قصر قريب من الخَوَرْنق كان النعمان الأكبر اتخذه لبعض ملوك العجم، على أقوال. ينظر "معجم البلدان" ٢/ ٤٠١، و ٣/ ٢٠١.