للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقَدِمَتْ على هشام، فأَمَرَ لها بأنواع الحُلِيّ والجواهر، وفاخر الفُرُش، وأفردَ لها مقصورةً ووصائفَ.

فبينا هو ذاتَ يوم قد خلا بها في مستشرف له، فتذاكرا طُرُفَ الأخبار، وأنشدَتْ غرائبَ الأشعار، فازدادَ بها سرورًا، وإذا بصوارخَ في جِنازة يحملُها فِئامٌ من النَّاس، ووراء الجنازة نادبةٌ من بين النساء وهي تقول:

بأبي المحمول على الأعواد، المُنْطَلَقُ به إلى محلَّة الأموات، المُتَخَلَّى في قبره وحيدًا فريدًا، ليت شعري هل أنتَ ممَّنُ يناشد حَمَلَتَهُ: أسْرِعُوا بي؟ أم أنتَ ممَّن يُناشدهم: ارجعوا بي، إلامَ تُقدِّموني (١)؟!

قال: فهملَتْ عينا هشام ولها عن لذَّته، وجعل يبكي ويقول: كفى بالموت واعظًا. فقالت غَضِيض: قد قَطَّعَتْ هذه النادبةُ نِياطَ قلبي، فقال هشام: الأمرُ جِدٌّ. ثم دعا الخادمَ ونزلَ عن مستشرفه، ومضى.

ونامت غَضِيض في مكانها (٢)، فأتاها آتٍ في منامها فقال لها: أَنْتَ المفتنةُ بشبابِك، واللاهيةُ بِدلالِكِ، كيف بكِ إذا نُقر في النَّاقور، وبُعثر ما في القبور، وخرجوا منها للنشور، وقُوبلوا بالأعمال التي قدَّموها؟!

فاستيقَظَتْ مُرْتاعةً، ودَعَتْ بماء فاغتَسَلَتْ، وألقَتْ عنها لِباسَها وحُلِيَّها، وتَدَرَّعَتْ بمِدْرَعَةِ صوف، وحَزَمَتْ وَسَطَها بخيط، وتناولَتْ عصًا، وألقَتْ في عُنقها جِرابًا، واقتحَمَتْ مجلس هشام، فلمَّا رآها أنكرها، فنادَتْ: أنا جاريتُك غَضِيض، أتاني النذير، فقَرَعَ مسامعي وَعِيدُه، وقد قَضَيتَ مني وَطَرًا، وقد أتيتُك لتُعتِقَني من رِقِّ الدنيا.

فبكى هشام، وقال: شَتَّانَ ما بين النَّظْرَتَين (٣) وأنت في طَرَبِك، فإلى أيِّ مكان تقصدين؟ قالت: إلى البيت الحرام. فقال: أنتِ حُرَّةٌ لوجه الله، لا سبيلَ لأحدٍ عليك.


(١) أخرج البُخَارِيّ (١٣١٤) عن أبي سعيد الخُدري أن رسول الله (ص) قال: "إذا وُضعت الجنازةُ واحتملها الرجال على أعناقهم، فإنْ كانتْ صالحة قالت: قدِّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يَا ويلَها! أين يذهبون بها؟ يسمع صوتَها كلُّ شيء إلَّا الإنسان، ولو سمعه لصعق".
(٢) في (ص): مجلسها.
(٣) في (ص): النظر.