وأُتي أبو العباس بجوهرٍ، فجعل يُقلِّبه وعبدُ الله يبكي، فقال له أبو العباس: يا أبا محمد، ما يُبكيك؟ فقال: هذا عند بنات مروان، وما رأت بناتُ عمِّك مثلَه قط، فحَبَاه به.
ودخل عليهما أبو جعفر فقام السفاحُ، وأخذ بيد عبد الله، وجعل يُرِيه قصورَه بالهاشمية، فتمثَّل عبد الله بالشعر، فقال له أبو جعفر: ألا تسمع؟ إنّ هذا يظنُّ أن الأمر يصلُ إليهم! فقال عبد الله: ما ذهبتُ هذا المذهب، وإنما هي كلمةٌ جرَتْ على لساني لم أتعمدها، وخشَّنت تلك الكلمةُ صدر أبي العباس.
وخرج عبد الله إلى المدينة، فبعث السفاح رجلًا من ثقاته معه، وأمره أن يضبط ما يسمعُ منه، فلمَّا قدم عبد الله المدينةَ اجتمع إليه الطالبيون، ففرَّق فيهم الأموال التي أعطاه السفاح، واستأثر بالجوهر، وكان قيمتُه مئتي ألف دينار، وفرح الطالبيون بالأموال، فقال لهم عبدُ الله: أفرحتُم؟ قالوا: وكيف لا نفرحُ بما كان محجوبًا عنا بأيدي قوم آخرين؟! وعاد الرجل فأخبر السفَّاح، فلم ينطق، وصبر لينظر ما يكون منهم، وبلغ أبا جعفر وأعمامَ السفاح فقالوا: أدِّبه، فقال: العفو أقربُ إلى التقوى، والتغافل من أخلاق الكرام، ومات على ذلك، وقام أبو جعفر، ففعل بهم ما فعل.
وقال الهيثم: لما أنشد عبدُ الله الشِّعر وغضب السفَّاح بلغ أبا جعفر، فقال: الرِّفق أولى. وبلغ السفاحَ قولُه، فقال: أيقول لي هذا؟ والله لا كان حَتْفُ عبد الله وبَني حسنٍ إلا على يده. فكان كما قال (١).
وكان السفَّاح يسمع الغناء من وراء السّتارة، ويطرَبُ، ويُجيز عليه في الحال، ويقول: نتعجَّل السُّرور، ونؤجل مكافأته؟
وأول من أحدث السِّتارة بينه وبين ندمائه في الجاهلية أزدشير بنُ بابك، والسفَّاح في الإسلام.
قيل لأبي العباس: الخلافةُ جليلة، فلو احتجبتَ عن مَنْ يشاهدك كان أكثر هيبة، فاحتجَبَ.
(١) الأخبار السالفة في العقد الفريد ٣/ ٧٤ - ٧٥، وانظر المنتظم ٧/ ٣٠٠.