للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمَّا منشؤه فبالكوفة، بها ولد، وبها نشأ ثم سافر إلى الحجاز وغيره.

وأما طلبه العلم فروى الخطيب بإسنادِه قال: قال أبو حنيفة: لما أردتُ العلمَ جعلتُ أتخيَّر العلوم، وأسأل عن عواقبها، فقيل لي: تعلَّم القرآن، قلت: فماذا يكون إذا تعلَّمتُ القرآن وحفظتُه آخر أمري؟ قالوا: تجلسُ في المسجد فيقرأ عليك الصبيان والأحداث، ثمَّ لم تلبث أن يخرجَ فيهم من هو أحفظُ منك، فتذهبُ رياستُك.

قلت: فإن سمعتُ الحديث وكتبتُه حتى لم يكن في الدنيا أحفظُ مني، فما يكون آخر أمري؟ قالوا: إذا كبِرت وضعفت حَدَّثت واجتمعَ عليك الصبيان والأحداث، ثمَّ لا تأمن أن تغلط فيرموك بالكذب، فيصير عارًا عليك في عَقبك، فقلت: لا حاجةَ لي في هذا.

ثمَّ قلت: أتعلَّمُ النحو، فإذا حفظتُ النحوَ والعربيَّة فما يكون آخر أمري؟ قالوا: تقعدُ معلمًا، فأكثر رزقك ديناران إلى ثلاثة.

قلت: فإن نظرتُ في الشعر فلم يكن أحدٌ أشعرَ منِّي، ما يكون من أمري؟ قال: تمدحُ هذا فيَهبُ لك ويخلع عليك، فإن حرمَكَ هجوتَه، فتقذف المحصنات، فقلت: لا حاجةَ لي في هذا.

قلت: فإن نظرتُ في الكلام فما يكون آخره؟ قالوا: لا تسلم من النظر في مشنِّعاتِ الكلام، فتُرمى بالزندقة، فإمَّا أن تؤخذ فتقتل، وإمَّا أن تسلم فتكون مذمومًا ملومًا.

قلت: فإن تعلَّمتُ الفقهَ، قالوا: تُسألُ وتُفتي الناس، وتُطْلَبُ للقضاء وإن كنت شابًّا.

قلت: فليس في العلوم شيء أنفع من هذا، فلزمتُ الفقه وتعلَّمتُه (١).

قلت: وقد أتى أبو حنيفة على جميع هذه العلوم، فحكى الخطيب في "تاريخه" في غير موضع أنه ختمَ القرآن ثلاثين سنة (٢)، وسمعَ الحديثَ من خلقٍ كثير، وكان نحويًّا لغويًّا.


(١) انظر لزامًا ما علقه الذهبي في السير ٦/ ٣٩٦ - ٣٩٧ حول وضع هذه القصة، وما في متنها من نكارةٍ دالَّة على اختلاقها.
(٢) أخرج الخطيب في تاريخه ١٥/ ٤٨٤ بإسناده إلى حفص بن عبد الرحمن قال: كان أبو حنيفة يحيي الليل بقراءة القرآن في ركعة ثلاثين سنة.