للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سَمْحًا حليمًا، عارفًا بأيَّام النَّاس.

دخل ابنُ الخياط المكِّي عليه فقبَّل يدَه ومدحه، فأَمر له بخمسين ألفَ درهم، فلمَّا قبضها فرَّقها على النَّاس وقال: [من الطَّويل]

لمستُ بكفِّي كفَّه أَبتغي الغنى … ولم أدرِ أن الجُودَ من كفِّه يُعدي

فلا أنا منه ما أَفاد ذَوو الغنى … أَفدتُ وأَعداني فضيَّعتُ ما عندي (١)

وبلغه فأعطاه عوضَ كلِّ درهمٍ دينارًا.

وقال المهديّ: ما توسَّل أحدٌ إليَّ بوسيلة ولا تذرَّع بذريعةٍ هي أقربُ إلى وأحبُّ من أن يذكرَني يدًا سلفت مني إليه أُتبِعها بأُختها؛ لأن منعَ الأواخرِ يقطع شكرَ الأوائل.

وقال حسنٌ الوصيف: جلس المهديُّ جلوسًا عامًّا، فدخل عليه رجل في يده نعلٌ في منديل، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، هذه (٢) نعلُ رسولِ الله أَهديتها لك، فأخذها منه وقبَّل باطنَها ووضعها على عينيه، وأَمر للرجل بعشرة آلافِ درهم، فلما خرج الرجلُ قال المهديُّ لجلسائه: أَتروني أنِّي [لم] (٣) أعلمْ أنَّ رسولَ الله لم يرَها فضلًا عن أن يكونَ لبسها؟ ولو كذَّبناه قال للنَّاس: أتيت أميرَ المُؤْمنين بنعل رسولِ الله فردَّها عليّ، وكان مَن يصدِّقه أكثرَ ممن يدفع خبرَه؛ إذ كان من شأن العامَّةِ الميلُ إلى أشكالها والنُّصرةُ للضعيف على القويِّ وإن كان ظالمًا، فاشترينا لسانَه وقبلنا هديَّته وصدَّقنا قولَه، ورأينا الذي فعلنا أنجح وأرجح.

وقال سليمانُ بنُ علي: دخل الربيعُ يومًا على المهديِّ وبيده قطعةٌ من جراب فيها كتابةٌ برماد وخاتمٌ من طين قد عُجن بالرَّماد وهو مطبوعٌ بخاتم الخلافة، فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، أعرابيٌّ على الباب ينادي: مَن يدلُّني على الرَّبيع؟ هذا كتابُ أمير المُؤْمنين، فأخذه المهديُّ وضحك وقال: هذا واللهِ خطِّي وخاتَمي، وصدق، ثم شرع يحدِّث فقال: خرجت أمسِ إلى الصيد في غِبِّ سماء، فلما أصبحت هاج علينا ضبابٌ شديد،


(١) اختلف في نسبة البيتين، انظر الأغاني ٣/ ١٥٠ - ١٥١ و ٢٠/ ١، وديوان بشار ٢/ ٢٣٦، وديوان دعبل ص ٤٤٦ - ٤٤٧.
(٢) في (خ): هذا. والمثبت من تاريخ بغداد ٣/ ٣٨٧.
(٣) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد.