للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفقدتُ أصحابي حتَّى ما أَرى منهم أحدًا، وأصابني من الجوع والبردِ والعطشِ ما اللهُ به عليم، وتحيَّرت، فذكرت دعاءً سمعتُه من أبي يحكيه عن أَبيه عن جدِّه عن ابنَ عباسٍ قال: قال رسول الله : "مَن قال إذا أَصبح وأَمسى: بسم الله وبالله ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله، اعتصمتُ بالله وتوكَّلت على الله، حسبي اللهُ [ولا حولَ] (١) ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم، وُقي وكُفي وشُفي من الحرق والغرقِ والهدم وميتةِ السُّوء" فلما قلتُها رُفع لي ضوءُ نار، فقصدتُها، وإذا بأعرابيٍّ في خيمةٍ له يوقد نارًا، فسلَّمت عليه وقلت: هل من ضيافة؟ قال: اِنزل، فنزلت، فقال لزوجته: اِطحني ذاك الشعير، فأخذتْ في طحنه، فقلت: اِسقني ماء، فأتاني بسقاءٍ من لبنٍ فيه مَذْقة، فشربتُ منه شربةً ما شربت قطُّ شربةً إلَّا وهي أطيبُ منه وألذّ، وأَعطاني حِلْسًا، فنمت نومةً ما نمت عمري ألذَّ منها، ثم انتبهتُ وإذا به قد ذبح شُويهةً لم يكن له سواها، وإذا بامرأته تقول: قتلتَ نفسَك وصِبيتَك، إنَّما كان معاشُكم من هذه الشاةِ وقد ذبحتَها، فبأيّ شي؟ تعيش؟! قال: فقلت لها: لا عليك، هاتِ الشاة، فشققتُ جوفَها واستخرجتُ كَبِدها، وأخرجت سكِّينًا من خفِّي، فشرحتها وشويتُها على النَّار وأَكلتها، فما أكلتُ أطيبَ منها. ثم قلت: هل عندكَ ما أَكتب لك فيه؟ فجاء بهذه القطعة، فأخذتُ عُودًا من الرَّماد الذي كان بين يدي، فكتبتُ هذا الكتابَ وختمته بهذا الخاتمَ، وأمرته أن يجيءَ ويسألَ عن الرَّبيع فيدفعَه إليه، ثم قرأ المهديُّ الكتاب، وإذا فيه: خمسُ مئةِ أَلْف درهم، فقال: واللهِ ما أردتُ إلَّا خمسين ألفَ درهم، ولكن خرجت بخمس مئةِ أَلْف، واللهِ لا أَنقص منها درهمًا واحدًا ولو لم يكن في بيت المالِ غيرُها، اِحملوها معه، فما كان إلَّا القليلُ حتَّى كثرت إبلُ الرجلِ وشاؤه، وصار منزلًا من المنازل ينزله النَّاسُ مَن أراد الحجَّ من الأَنبار إلى مكَّة، وسمِّي مضيف أمير المُؤْمنين.

واعترضته امرأةٌ وقالت: يَا عصبةَ رسولِ الله انظر في حاجتي، فأَعجبه كلامُها وقال: ما سمعتُها من أحدٍ قبلها، اقضوا حاجتَها وأعطُوها عشرةَ آلافِ درهم.

وقدم المهديُّ البصرة، فكان يصلِّي بالنَّاس الصلواتِ الخمسَ في جامع البصرة،


(١) ما بين حاصرتين من تاريخ بغداد ٣/ ٣٩٠.