أميرَ المُؤْمنين، احتمل ما أكلِّمك به اليومَ لله تعالى؛ فإنَّ أَوْلى الناسِ بالله أحملُهم للنصيحة فيه، وجديرٌ بمن له قرابةٌ من رسول اللهِ ﷺ أن يرثَ أخلاقَه ويأتمَّ بهديه، وقد ورَّثك اللهُ من فهم العلمِ وإِنارة الحجَّة ميراثًا قطع به عُذرَك، فمهما ادَّعيتَ من حجَّة أو ركبت من شبهةٍ لم يتَّضح لك فيها برهانٌ من الله تعالى، حلَّ بك من سَخَطه بقدر ما تجاهلتَه من العلم، أو أَقدمتَ عليه من شُبهة الباطل، واعلم أنَّ رسولَ الله ﷺ خصمُ مَن خالفه في أمَّته، ومَن كان محمدٌ ﷺ خصمَه كان اللهُ خصمَه، فأعدَّ لمخاصمة (١) اللهِ ورسولِه حُجَجًا تضمن لك النَّجاة، أو استسلم للهَلَكة، واعلم أنَّ أبطأَ الصَّرعى نهضةً صريعُ هوًى يدَّعيه إلى الله قُربة، وأنَّ أثبتَ الناسِ قَدَمًا يومَ القيامة آخذُهم بكتاب اللهِ وسنَّة رسولِه ﷺ، فانتبهْ فقد تصيَّدت الدنيا نُظراءك، فاعملْ بالأمانة فقد أدَّيتُ إليك النصيحة. فبكى المهديّ.
ودخل عليه صالحُ بن عبدِ الجليل فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، لَمَّا سهل علينا ما توغَر على العامَّة من الوصول إليك، قمنا مقامَ الأداء عنهم وعن رسول اللهِ ﷺ بإِظهار ما في أعناقنا من فريضة الأمرِ والنَّهي بانقطاع عُذرِ الكتمان، ولا سيما حيث اتَّسمتَ بميسَم التواضع، وآثرتَ الحقَّ على ما سواه، فجمعنا وإياك مشهد من مشاهد الحقّ، وفي الأثر: مَن حجب اللهُ عنه العلمَ عذَّبه على الجهل، فأقبل يَا أميرَ المُؤْمنين ما نُهدي إليك من ألسنتنا ونؤدّي به إليك نصيحتَنا.
وقدم المهديُّ حاجًّا، فلمَّا أخذ في الطواف نَحَّى النَّاسَ عن البيت، فوثب عبد الله بن مرزوقٍ فلبَّب المهديَّ بردائه، ثم هزَّه وقال: مَن جعلك أحقَّ بهذا البيتِ مِمَّن أتاه من بعيدٍ حتَّى إذا صار عنده حُلْتَ بينه وبينه؟ فقال: مَن هذا؟ فقال: ابنُ مرزوق، وكان مولًى من مواليهم، فكره أن يعاقبَه عقوبةً يُشنِّع بها عليه العامَّة، فأخذه معه إلى بغداد، وحبسه في إصطبلِ الدوابِّ مع فرسٍ شَموس ليدوسَه فيقتلَه، فذلَّل اللهُ له الفرس، فكان يمدُّ عنقَه بين يديه، وأُخبر المهدي، فحبسه في بيتٍ عنده مظلم، وأخذ المفتاحَ فخبأه تحت رأسه، فقيل له: إنَّه في البستان يأكل البَقل، فأَحضره وقال: مَن أطلقك؟ فقال:
(١) في (خ): لمخاصم. والمثبت من تاريخ بغداد ١٠/ ٤١٧.