للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فقال: يا محمد، إمَّا أن تحملَني وإما أن أحملَك، فعلمتُ مرادَه، فأنشدتُه أبياتَ ابنِ صِرمةَ الأنصاري: [من الطويل]

فأُوصيكمُ (١) بالله أوَّلَ وهلةٍ … وأَحسابِكمْ والبرّ بالله أوَّلُ

فإنْ قومُكمْ سادوا فلا تحسدوهمُ … وإنْ كنتمُ أهل السعادةِ (٢) فاعدلوا

وإنْ أنتمُ أَعوزتمُ فتعفَّفوا … وإنْ كان فضلُ المالِ فيكم فأَفضِلوا

فأَمر لي بعشرين ألفَ درهم.

ودخل على الهادي عُلَيَّان الموسوس وبُهلول، فقال الهادي لعُليان: أَيشٍ معنى عُلَيَّان؟ فقال عُليان: فأَيشٍ معنى موسى؟ فقال: جرُّوا برِجله ابنَ الفاعلة، فالتفت إلى بُهلول وقال: خذْ لك، كنا اثنين صرنا ثلاثة، فضحك الهادي حتى استلقى على ظهره.

وكان الهادي يحبُّ العلماءَ وأهلَ الفضل، ويخيِّرهم ويُدني مراتبَهم، استقدم عيسى بن يزيدَ بن بكرِ بن داب، وكُنيته أبو الوليد، وكان عالمًا بأيَّام العربِ وأنسابِهم، صاحبَ فنون، وكان أفضلَ أهلِ الحجاز وأَحلاهم منطقًا، فحظي عنده بحيث أعدَّ له في مجلسه متَّكأ، ولم يفعلْ ذلك بغيره، وكان يقول له: ما استطلتُ بك يومًا وليلةً قطّ، ولا غبتَ عن عيني إلا وتمنَّيتُ أن أراك، ووصله بأموالٍ عظيمة، وكان لا يأكل مع الهادي، فقيل له في ذلك، فقال: ما كنتُ لآكلَ مع مَن لا أغسل يدي عنده، وبلغ الهادي، فأَمر بغسل يدِه دون الناس.

ذِكرُ وفاةِ الهادي:

واختلفوا فيها على أقوال:

أحدها: أن أمَّه كانت سببًا لهلاكه؛ لأنَّها كانت في أوَّل خلافته تفتات عليه وتستبدُّ بالأمر والنَّهي، فأَرسل إليها يقول: لا تخرجي من خَفَر الكفايةِ إلى بذاذة التبذُّل، فإنَّه ليس من قَدْر النساءِ الاعتراضُ في أمر الملك، وعليك بصَلاتك وسُبحتك وتبتُّلك، ولكِ بعد هذا طاعةُ مثلِك فيما يجب لك.


(١) في (خ): أوصيكم. والمثبت من العقد الفريد ١/ ٢٢٩.
(٢) في العقد الفريد: السيادة.