واحد ملتحِفٌ به، فجلس إلينا، فأَلقى مسألة، فما زلنا نتكلَّم في الفقه حتى انصرفنا، ثم جاءني في الجُمُعة المقبلة، فسألنا فأجبنا، وسألناه عن منزله فقال: أَنزل الخُرَيبة، قلنا: فالكُنية؟ قال: أبو عبدِ الله. فكان يجالسنا، وانقطع عنَّا مدة، فوعد بعضُنا بعضًا أن نمضيَ إلى الخريبة ونستوحشَ له، فأتينا فسألنا عنه، فقال لنا صبيانٌ قد انصرفوا من الكتَّاب: لعلكم تريدون أبا عبدِ الله الصيَّاد؟ قلنا: نعم، قال: الساعةَ يأتي، وهذا وقتُه، وإذا به قد أَقبل مؤتزرًا بخِرقة وعلى كتفه خِرْقة، ومعه أطيارٌ مذبَّحة وغيرُ مذبحة، فلمَّا رآنا تبسَّم وقال: ما جاء بكم؟ فقلنا: فقدناك وقد كنت عمرتَ مجلسَنا، فما غيَّبك عنا؟ قال: كان لي جار، فكسْت أَستعير منه ثوبًا في كلِّ جمعة، وهو الثوبُ الذي كنت أتيتكم فيه، فسافر الجارُ إلى وطنه، وكان غريبًا، فلم يكن لي ثوبٌ آتيكم فيه، ثم قال: هلمُّوا إلى المنزل، فدخلنا بيتًا ليس فيه سوى قطعةٍ من بارِّية (١)، فقال: اقعدوا، ودفع الأطيارَ المذبَّحة إلى المرأة وقال: أَصلِحيها، وأخذ الأطيارَ الأحياءَ ومضى إلى السوق، فباعها واشترى خبزًا، ثم جاء وقد صنعت المرأة تلك الأَطيار، فقدَّمها إلينا مع الخبز، فأكلنا، وكان يقوم فيأتي بالملح، وتارةً بالماء، فقال بعضُنا لبعض: ألا ترون حال الرجل؟ أما تغيِّرون من حاله وأنتم سادةُ أهل البصرة؟! فقال أحدُهم: عليَّ خمسُ مئة، وقال الآخَر: وعليَّ ثلاثُ مئة، وضمن بعضُهم أن يأخذَ له من غيره، فبلغ الذي جمعوه خمسةَ آلافِ درهم، فقالوا: قوموا بنا نذهب فنأتيه بالمال.
فخرجنا ومررنا بالمِرْبد، وإذا بمحمد بنِ سليمانَ والي البصرةِ في مَنظَرة له، فقال: يا غلام، ائتني بإبراهيمَ بن شبيبٍ من بين القوم، فجئتُ فدخلت عليه، فقال: من أين أقبلتم؟ فصدقته الحديث، فقال: أنا أسبقكم إلى بِرِّه، يا غلام، ائتني ببَدْرة دراهم، فجاء بها، فقال: احملْ هذه إليه. قال: ففرحت وحملها معي فرَّاش، فأتيتُ إلى بابه فسلَّمت، فأجابني أبو عبدِ الله وخرج، فلمَّا رأى الفراشَ والبَدرةَ على رأسه كأنِّي سففتُ في وجهه الرَّماد، وأقبل عليَّ بغير ذلك الوجهِ الأوَّل وقال: ما لي ولك يا هذا! تريد أن تفتنَني! فقلت له: يا أبا عبدِ الله، إنَّ محمد بنَ سليمانَ من الجبَّارين، فاللهَ اللهَ في نفسك، فازداد غيظًا، وقام فدخل منزلَه وأصفق البابَ في وجهي، فرجعت إلى
(١) البارية: الحصير المنسوج. القاموس المحيط (بور).