أيوب ليجلدنها مئة جلدة، فأفتاه الله لطفًا بها فجمع العيدان، وقيل: كانت مئة سنبلة، فضربها ضربة واحدة. وهل ذلك خاصٌّ له أو عام؟ قال ابن عباس: هو عام، وقال مجاهد: هو خاصّ، والأول أصح.
واختلف الفقهاء فيمن حلف أن يضرب عبده أو أمته أو زوجته مئة سوط، أو أقل أو أكثر، فأخذ حزمةً وضرب بها، قال أصحابنا: إن أصابه بكلِّ واحد منها برئ في يمينه، وقال الشافعي ومالك وأحمد: لا يبرأ، وجه قولهم: إن ذلك كان خاصًّا بامرأة أيوب رفقًا بها، وهذا المعنى معدوم في حق غيرها. ولنا: ما كان جائزًا في شرع غيرنا فهو جائزٌ في شرعنا إلا أن يوجد النسخ، ولم يوجد، قال الله تعالى ﴿فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام: ٩٠].
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا﴾ [ص: ٤٤] ولم يصبر حتى قال: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ فأين صبره؟ فالجواب: أنَّ المذموم هو الشكوى إلى الخلق، أمَّا إلى الخالق فلا. وشكواه إلى الله بما ذكرنا من الأسباب لا يدلُّ على أنه لم يصبر، ألا ترى إلى قول يعقوب: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: ٨٦]، ثم قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ [يوسف: ١٨؛ ٨٣] على أن قوله: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ قد ذهب بعض العارفين إلى أنه دعاء لا شكوى، وقد أشار إليه أبو القاسم ابن حبيب قال: والدليل عليه قوله تعالى: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء: ٧٦] والاستجابة إنما تتعقب الدعاء.
فإن قيل: فكيف الجمع بين قوله ﴿وَلَا تَحْنَثْ﴾ وبين قوله تعالى لنبينا ﷺ ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: ٢].
فالجواب: إنه لم يكن في من تقدَّم من الأمم كفارةُ يمين، وإنما شُرِعَتْ لهذه الأمَّة تخفيفًا عنها، فتأخذ مرةً بالعزيمة ومرة بالرخصة.
وقد روى مجاهد عن ابن عباس موقوفًا عليه ومرفوعًا قال: يجاء يوم القيامة بالمريض فيقول له الله تعالى: ما منعك أن تعبدني؟ فيقول: يا رب، ابتليتني ببلاءٍ شغلني عن عبادتك، فيجاء بأيوب في ضرِّه وبلائه ويقال له: أنت أكثر بلاءً أم هذا؟ فيقول: لا بل هذا، فيقول: إن هذا لم يمنعه ما كان فيه عن عبادتي لحظةً قطُّ.