للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفيها (١) غزا هارونُ بلادَ الرُّوم، فأوغل فيها، وفتح هِرَقْلَة، وولَى ابنَه القاسمَ الصَّائفة، وأَعطاه العواصم، فنازل حصنَ سنان، فبعث إليه قيصر، وسأله أن يرحلَ عنه ويعطيَه ثلاثَ مئةٍ وعشرين أسيرًا من المسلمين، ففعل.

وفيها غضب هارونُ على عبد الملكِ بن صالحِ بن عليٍّ وحبسه، وكان قد سعى به كاتبُه وولدُه عبدُ الرَّحمن بنُ عبد الملكِ وقالا: إنَّه يروم الخلافة، فأحضره الرشيدُ وقال له: أكُفرًا للنِّعمة وجُحودًا لجليل المِنَّة؟! فقال: يا أميرَ المؤمنين، لقد بُؤتُ بالنَّدم، وتعرَّضتُ لاستحلال النِّقَم، وما ذاك إلا بغيُ حاسد، نافَسَني فيك مودَّة القرابةِ وتقديمَ الولاية، إنَّك يا أميرَ المؤمنين خليفةُ اللهِ وخليفةُ رسولهِ في أمَّته، وأَمينُه على عِتْرَتِه، لك عليها فرضُ الطاعة وأداءُ النصيحة، ولها عليك العدلُ في حكمها، والتثبُّت في حادثها، والغفرانُ لذنوبها. فقال له الرَّشيد: أَتَضَعُ لي من لسانك وترفعُ من جَنانك؟! هذا كاتبُك قُمامةُ يُخبر بفعلك (٢)، فقال: إنَّه أعطاك ما ليس في عَقْده، ولعلَّه لا يقدر أن يبهتَني بما لم يعرفْه مني.

فأُحضر قُمامة، وقال له الرَّشيد: تكلَّم غيرَ هائبٍ ولا خائف، فقال: أَقول: إنَّه عازمٌ على الغدر بك والخلافِ لك، فقال: كيف لا يكذب على مِن خلفي وهو يَبهتني في وجهي؟ فقال له الرَّشيد: هذا ابنُك عبدُ الرَّحمن أيضًا، أَخبَرني بفساد نيَّتك، ولو أردتُ أن أحتجَّ عليك لم أجد أعدلَ من هذين، فقال: أمَّا عبدُ الرَّحمن، فهو إمَّا مأمورٌ أو عاقّ، فإن كان مأمورًا فهو مَعْذور، وإنْ كان عاقًّا فهو فاجرٌ كفور، وقد أَخبر اللهُ بعداوته وحذَّر منه بقوله: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: ١٤].

فنهض الرَّشيدُ وهو يقول: أمَّا أمرُك فقد وَضَحَ، ولكنِّي لا أَعجل حتى أعلمَ الذي يُرضي الله فيك، فإنه الحَكَمُ بيني وبينك، فقال عبدُ الملك: رضيتُ بالله حَكَمًا، وبأمير المؤمنين حاكمًا؛ لعلمي أنَّه يؤثر كتابَ اللهِ على هواه، وأمرَه على رضاه.

وجرت لعبد الملكِ مع الرَّشيدِ مُناظرات، منها: أَمر بإِحضاره، فدخل عليه فسلَّم،


(١) في (خ): وقال، والمثبت من المنتظم ٩/ ١٣٧.
(٢) في تاريخ الطبري ٨/ ٣٠٣: بغلك.