فلما قاربت السِّتر، رُددتُ، فيئستُ من الصينية، فجئت، فأمرني بالجلوس وسألني عن حالي، فحدَّثته بقصَّتي، فبكى ثم قال: عليَّ بموسى، فجاءه، فقال: يا بُنيّ، هذا رجلٌ من أولاد النِّعم قد رمته الأيامُ بصرفها، فخذه واخلطْه بنفسك، فأخذني فخلع عليّ، وأمرني بحفظ الصِّينية، فكنتُ في العيش يومي وليلتي، ثم استدعى أخاه العباسَ وقال: إنَّ الوزير سلَّم إليَّ هذا وأريد الرُّكوبَ إلى دارِ أميرِ المؤمنين، فلْيكن عندك اليوم، فكان يومي مثلَ أمسي، وأَقبلوا يتداولوني وأنا قَلِقٌ بأمر عيالي، ولا أتجاسر أن أذكرَهم، فلمَّا كان اليومُ العاشر، أُدخلت على الفضل، فأقمتُ عنده يومي وليلتي، فلمَّا أصبحت جاءني خادمُه فقال: قم إلى عيالك وصبيانك، فقلت: إنا لله، ذَهَبَت الصينية وما فيها، فليت هذا كان من أوَّل يوم، وقمت مع الخادمِ أمشي، فأخرجني من الدار، فازداد يأسي، ثم أَدخلني إلى دارٍ كأنَّ الشمسَ قد طلعت من جوانبها، وفيها من صنوف الآلاتِ والفُرُش، فلما توسَّطتها، رأيت عيالي يرتعون في الدِّيباج والحريرِ وفنونِ الأَطعمة، وقد حملت إليهم مئة ألفِ درهمٍ وعشرة آلافِ دينار، وسلَّم إليَّ الخادمُ صكًّا بضيعتَين جليلتين وقال: هذه الدارُ وما فيها والضَّيعتان لك.
فأقمتُ مع البرامكة في أَخفضِ عيشٍ إلى الآن، ثم قصدني عَمرو بنُ مَسعدةَ في الضَّيعتين، وأَلزمني من خَراجهما ما لا يفي [به] دخلُهما، فكلَّما لحقتني نائبة، قصدتُ دورَهم فبكيتُهم، فاستدعى المأمونُ عَمرَو بن مسعدةَ وأمره أن يردَّ عليه ما استخرج منه، ويقرِّرَ خراجه على ما كان عليه في أيَّام البرامكة، فبكى الرجلُ بكاءً شديدًا، فقال له المأمون: أَلم أستأنفْ بك جميلًا! قال: بلى، ولكن هذا من بركةِ البرامكة، فقال (١): امضِ مصاحَبًا؛ فإن الوفاءَ مبارك، وحسن العهدِ من الإِيمان [انتهت ترجمته واللهُ أعلم، والحمدُ لله وحده، وصلَّى اللهُ على محمَّد].