يدعوني بالمَصير إليه، ولست أُقيم بعد نظري فيه لحظةً واحدة، فاستوصُوا بالحُرَم خيرًا، ولا يتبعْني منكم أحد، هاتِ يا منارة قيودَك، فدعوت بها، فمدَّ رجليه، فقيَّدته، ثم أمرتُ أصحابي فحملوه فألقَوه في شِقِّ محمل، وركبت في الشقِّ الآخر، وسرنا وليس معه أحدٌ من غلمانه، فشرع يحدِّثني بانبساط، وكلَّما مررنا على بستانٍ يقول: هذا لي وفيه من غرائب الأشجارِ والثِّمار كذا وكذا، فاغتظتُ منه وقلت: قد اشتدَّ تعجُّبي منك، ألستَ تعلم أنَّ أمير المؤمنين قد أهمَّه أمرُك حتَّى أرسلَ إليك مَن انتزعك من بين أهلِك وولدك وحَشَمك ومالِك ومن جميع ما كنتَ فيه، وقد بقيتَ فردًا وحيدًا مقيَّدًا ما تدري ماذا تصير إليه، وأنت فارغُ القلب تصف بساتينَك وضِياعك، لقد كنتَ عندي شيخًا فاضلًا!
فاسترجع وقال: لقد أخطأتْ فِراستي فيك، ظننتك رجلًا كاملَ العقل، وأنَّك ما حللت من الخلفاء هذا المحلَّ إلَّا بعد أن عرفوك بذلك، وكلامُك يشبه كلامَ العوامّ، وعقلُك يشبه عقولَهم، واللهِ إنِّي على ثقةٍ من الَّذي ناصيةُ أمير المؤمنين بيده، وأنَّه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا ولا لغيره إلَّا بإذن الله، ولا ذنبَ لي عنده أخافه، وإذا عرف سلامتي وطاعتي، وأنَّ الحسَّاد سَعوا بي إليه بالأباطيل، لم يستحلَّ دمي، وردَّني إلى أهلي مكرَّمًا، وإنْ كان قد سبق في علم اللهِ تعالى أن تبدرَ منه إليَّ بادرة وقد حضر أجلي، فلو اجتهد أهلُ السماءِ والأرض أن يصرفوا ذلك عنِّي ما استطاعوا، فلمَ أتعجَّل الهمَّ وأتسلَّف الفكرَ فيما قد فُرغ منه، وإنِّي حسن الظنِّ بالله، وأين الرِّضا والتسليمُ والتفويض لأوامر الله الخالق الرازقِ الضارِّ النافع.
ثم صمت فلم يكلِّمني بعدها كلمة، وأقبل على العبادة وقراءةِ القرآن والذِّكر والتسبيح، حتَّى وصلنا الكوفةَ في اليوم الثالثَ عشر، وإذا النُّجب قد استقبلتني على فراسخَ يتحسَّسون خَبري، فتقدَّمتُه ووصلت إلى أمير المؤمنين، فقال: هيه، حدِّثني حديث الرجلِ كأني حاضر، فحدَّثته الحديثَ، وما خاطبني به لمَّا خرجنا من دمشقَ، وسكوتَه عني وعدمَ اكتراثه، ووجهُه يتربَّد والغضبُ يلوح عليه، حتَّى حدَّثته بمخاطبتي له وما أجابني به واشتغالِه بالعبادة، فرقَّ وقال: صدق والله، هذا رجلٌ محسود على النِّعمة مكذوبٌ عليه، لقد آذيناه وأزعجناه وروَّعناه وأهلَه، بادر فحُلَّ قيودَه وأتني به مسرعًا.