للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بقبضه، واجعله في شِقِّ مَحْمِلٍ وأنت في الشقِّ الآخَر، وقد أجَّلتك ثلاثةَ عشرَ يومًا: ستَّةً لرَواحك، وستَّةً لعودك، ويومًا لمقامك. واحفظ ما يقول حرفًا حرفًا، وما يصنع، إلى أن تَقدمَ به عليّ.

قال منارة: فخرجتُ على البريد أَسير ليلًا ونهارًا، حتَّى قدمت دمشقَ في اليوم السابعِ، فسألتُ عن داره، فدُللت عليها، فأتيتها، وإذا بحاشية عظيمة، وغاشيةٍ كثيرة، وحِشْمةٍ مثل حشمةِ الملوك، فدخلتها بغير إِذن، فقال أصحابهُ لبعض مَن معي: مَن هذا؟ قالوا: منارة رسولُ أمير المؤمنين إلى صاحبكم، فكفوا، فلمَّا صرت في صحن الدار، رأيتُ مجلسًا بَهْوًا فيه قوم جلوس، فقاموا إليَّ ورحَّبوا بي وأَكرموني، فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: نحن أولادُه وهو في الحمَّام، فقلت: استعجلوه، فمضى بعضُهم فأخبره، وجعلت أتفقَّد أحوالَ الدار والحاشيةِ وهي تموج بأهلها، وإذا بالشيخ قد أَقبل بعد أن أطال وارتبت به وقلت: ربَّما توارى، هاذا حوله كهولٌ وصبيان، وهم أولادُه، وغلمانٌ كثيرة، فجاء فسلَّم سلامًا خفيًّا (١)، وسألني عن أمير المؤمنين، فأخبرتُه بما يجب، وجاؤوا بأَطباق الفاكهة، فقال لي: تَقدَّم يا منارةُ فكل، فقلت: ما لي إلى الأكلِ من حاجة، فلم يعاودْني، وأقبل هو يأكل والحاضرون، ثم غسل يدَه، وجاؤوا بالموائد التي لم أرَ مثلَها إلَّا للخلفاء، فقال: تقدَّم يا منارةُ فكل، فقلت: ما لي إلى الأكل، فتأمَّلتُه، وإذا به يأكل أكلَ الخلفاء، ولا يُرفع من بين يديه شيءٌ إلَّا وُهب (٢)، فقلت في نفسي: هذا جبَّار عنيد، لا يدعوني إلَّا باسمي كما يدعوني الخلفاء، وقد تهاون بي، وربَّما امتنع من الشُّخوص معي، وكيف أَصنع وأنا في منزله!

ثم غسل يدَه، وجاؤوا بالبَخُور، فتبخر وقام إلى الصلاة، فأَطال، ودعا واستغفر وابتهل، وصلَّى صلاةً حسنة، ثم انفتل من محرابه وقال: يا منارة، ما الَّذي أَقدمك؟ فأخرجت إليه كتابَ أمير المؤمنين، فلمَّا قرأه، دعا أولادَه وأهله وخَدَمه وحاشيته، فلم أشكَّ أنَّه يريد أن يوقعَ بي، فلمَّا تكاملوا، حلف بالأَيمان المغلَّظة ألا يجتمعَ منهم اثنان في موضع، وأن ينصرفوا إلى منازلهم، ثم قال لهم: هذا كتابُ أمير المؤمنين


(١) في الفرج بعد الشدة: خفيفًا.
(٢) في (خ) ونسخة من الفرج بعد الشدة: نهب. وفي هذا الموضع سقط في (ب).