حكى الفضل بنُ الربيع قال:] (١) رُفع إلى هارونَ أن الشافعيَّ يمنِّي نفسَه الخلافة، فاستدعاه وأراد أن يمتحنَه، فقال له: ما علمُك بكتاب الله؟ قال: عن أبيِّ علمٍ يسأل أميرُ المؤمنين؟ عن تأويله أم عن تفسيره؟ أم عن علم مكِّيِّه أو مدنيِّه؟ أم علمِ ناسخِه أو منسوخه؟ ونحو ذلك. فقال له: ما علمُك بالأحكام؟ فقال: عن أيِّ الأحكامِ تسأل؟ عن الطَّهارة، أو الصلاة، أو الصوم، أو الزَّكاة، أو الحجّ، أو النِّكاح، أو الطلاق، أو البيوع، أو الجنايات، أو الوصايا؟ وعدَّد الأحكام. فقال: ما علمُك بالعربية؟ فقال: تسأل عن فروعها أو أصولِها؟ أو مذاهب العربِ فيها؟ قال: ما علمك بالطِّب؟ فقال: طبِّ الرُّوم أو اليونانِ أو العرب؟ فعجب هارونُ منه وقال: قد ادَّعيتَ دعاوى عريضةً فعِظني، فقال: على شرط رفعِ الحِشْمة، وتركِ الهَيبة، وقَبول النصيحة، قال: نعم، قال: اعلم أنَّ مَن أطال عِنانَ الأمل في الغِرَّة، طوى عِنان الحَذَر في المُهلة، ومَن لم يعوِّل على طريق النَّجاة، خسر يومَ القيامة، إذا امتدَّت إليه يدُ الندامة. فبكى هارون ووصله بمال.
وقال الأصمعي: سُعي بالشافعيِّ إلى هارونَ أنَّه لا يرى إمامته، وأنَّه يرى إمامةَ آل أبي طالب، وكان الشافعيُّ بمكَّة، فأرسل إليه فاستدعاه، فلمَّا دخل عليه قال: بلغني كذا وكذا، فقال: يا أميرَ المؤمنين، واللهِ لأَن أكونَ مع قومٍ يظنُّون أني من أنْفُسهم، أحبُّ إليَّ من أَن أكونَ مع قومٍ يرون أني عبدٌ لهم.
فاستحسن كلامَه وولَّاه القضاءَ على اليمن، فلبث هناك مدَّة، ثم قدم مكَّة ومعه عشرةُ آلافِ دينار، فضرب خيمةً بذي طُوى خارجَ مكةَ ففرَّقها في فقراء الحرم، فقام ولم يبقَ معه دينارٌ. ولا درهم [وسنذكر معنى قول الشافعيِّ: أحبُّ إليَّ من أن أكونَ مع قومٍ يرون أني عبدٌ لهم، في ترجمة الشافعي.
(١) في (خ): وقال الفضل بن الربيع، والمثبت من (ب)، واخبر في تاريخ دمشق ٦٠/ ٤٠٦ و ٤٤٠ مطولًا من طريق ليس فيه ذكر الفضل.