للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فحين غابت أُنسيته كأن لم أكن أسمعه قطّ، فبقيت كئيبًا حزينًا وعُدت إلى المدينة. فقال لي سيِّدي: هاتِ ضَريبتك، فتلَجْلَج لساني، فقلت: أَصدُقُك الحديث، كان من خبري كذا وكذا، فبَطَحني وضربني مئةَ مِقرَعة، وحلق رأسي ولحيتي، ومنعني القُوت، ولم يكن ذلك عليَّ أشدَّ من ذهاب الصوتِ عني، فلقَا أصبحتُ خرجتُ في طَلَبها، وإذا بها قد أَقبلت، فلمَّا رأت ما بي من الوَلَه قالت: مالك، أنسيتَ الصوت؟ قلت: نعم وضُربت مئةَ مقرعة، وحُلق رأسي ولحيتي، ومُنعت القوت. فقالت: دعْ عنك هذا، فواللهِ لا سمَّعتُه لك إلَّا بدرهمين، فرَهَنْتُ مِقَصِّي على درهمين ودفعتهما إليها، فأَخَذَتهما ووضعتهما في فيها واندفعت تغنِّي، فذكرتُه، فقلت: قد ذكرتُه رُدِّي علي الدِّرهمين، فقالت: أي أحمق، واللهِ لئن لم أُعِدْه عليك مئةَ مرة لا حفظتَه أيدًا، فردَّدته عليَّ مئة مرة، فحفظتُه وأتيت إلى دار سيِّدي، فقال: هاتِ الضَّريبة، فتوقَّفت، فقال: ما كفاك ما جرى عليك أمس، فاندفعت أغنِّي بالصوت، فقال: ويحك وأنت تُحسن مثلَ هذا، قد أسقطتُ عنك ضريبتَك، ورددتُ عليك قوتَك، وأَحسنَ إليَّ.

فعجب هارونُ من ذلك، وأطلق للمغنِّين لكلِّ واحد ألفَ دينار، وكان فيهم إبراهيمُ وابنه إسحاقُ المَوْصِلي وإسماعيلُ بن جامع وسليمانُ بن سلام (١)، وأعطاني ألفَي دينار، وقال: ألفٌ واسيتك بها، والألفُ الأخرى لضربك مئةَ مقرعة، لكلِّ مقرعة عشرةُ دنانير.

جفا الرشيدُ العَتَّابيَّ، فكتب إليه: [من الطويل]

أَخِضْني المقامَ الغَمْرَ إن كان غرَّني … سَنا خُلَّبٍ أو زَلَّتِ القَدَمانِ

أتَتْرُكُني جَدْبَ المَعيشَةِ مُقْفِرًا (٢) … وكفَّاك من ماء النَّدى تَكِفَان

وتَجْعَلُني سَهْمَ المَطامعِ بعدما … بَلَلْت يديَّ بالنَّدى وبَناني

فرضي عنه.

ودخل ابنُ أبي حَفص الشِّطْرنجي -واسمهُ عمر بن عبدِ العزيز (٣) - على هارون


(١) في الفرج بعد الشدة: مسلم بن سلام.
(٢) في الأغاني ١٣/ ١١٣، والفرج بعد الشدة ١/ ٣٨١: مقترًا.
(٣) هو اسم أبيه أبي حفص. انظر الأغاني ٢٢/ ٤٤.