للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضينا دَينَ اليمامي، ووصلناه وأَعدناه إلى وطنه من غير سعيٍ منه في ذلك (١)،

وقال صَدقة بنُ أبي صَدقة: دعانا الرشيدُ يومًا، فدخلنا، [فأشار] إلى [بن] (٢) جامعٍ وقال: غنِّ، فغنَّى: [من الكامل]

قفْ بالمنازل ساعةً فتأمَّلِ … هل بالدِّيار لرائدٍ من منزلِ

أم لا ففيمَ توقُّفي وتحَيُّري … وَسْطَ الدِّيار كأنَّني لم أعقل

ما بالدِّيار من البِلى ولقد أرى … أنْ سوف يَحْمِلُني البِلى (٣) في مَحْمِل

وأحقُّ مَن يبكي بكلِّ محلَّةٍ … عَرَضَت له في منزلٍ للمُعْول (٤)

عانٍ بكلِّ حمامةٍ سجعت له … وغَمامةٍ بَرَقت بنَوء الأعْزَلِ

يبكي فتفضحه الدُّموع وعينُه … ما عاش دافقةٌ كفَيصْ الجَدْوَل

فلم يطرب الرشيد، فقال خادم السِّتارة للمغنِّين: غنُّوه، فغنَّوه، فلم يطرب، فقال لي الخادم: غنِّ، فغنَّيته، فطرب.

ثم أمر بإِدخالي عليه في السِّتارة، فأُدخلت عليه، وكلَّما غنَّيت طرب، ويقول: أحسنتَ يا صدقة، فلمَّا رأيت ما منحني اللهُ تعالى من استحسانه، قلت: يا أميرَ المؤمنين، لهذا الصوتِ خبرٌ عجيب، ألا أحدِّثك به؟ قال: بلى، فقال: كنت عبدًا لآل الزُّبير، خيَّاطًا أخيط القميصَ بدرهمين والسَّراويلَ بدرهم، وكان لسيِّدي عليَّ كلَّ يومٍ درهمان، فكنت أؤدِّيهما وأخرج إلى العَقيق، إذا بجارية سوداءَ، على رقبتها جرَّةٌ تريد أن تملأَها من العقيق، وهي تغنِّي بهذا الصوتِ أحسنَ غناء، فأخذني من الطَّرب ما لا أقدر أن أصفَه، وقلت لها: جُعلتُ فِداك، ألقي عليَّ هذا الصوت، فقالت: وصاحبِ القبر لا أُلقيه إلَّا بدرهمين، قلت: هذان درهمان، ودفعتهما إليها، فحَدَرت الجرَّةَ عن كتفها ووضعتْها على الأرض، واندفعت تغنِّي وتوقع [على] الجرَّة حتَّى أخذته منها، وقامت وملأت الجرَّةَ وانصرفت.


(١) كذا في الفرج بعد الشدة، وفي سائر المصادر أنَّه توفي قبل قضاء دينه.
(٢) ما بين حاصرتين من الفرج بعد الشدة ٢/ ٣٩٧، والقصة فيه بسياقة أخرى.
(٣) في الفرج بعد الشدة: الهوى.
(٤) في (خ): للمعزل. والعول: من يرفع صوته بالعويل والصياح.