للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فبكى هارونُ وأدخل رأسَه في قميصه.

ودخل عليه يومًا فأَنشده: [من البسيط]

أفنيتَ عُمْرك إدبارًا وإِقبالًا … تَبغي البَنين وتبغي الأهلَ والمالا

لِلموت أنت فكن ما عشتَ مُلْتَمِسًا … من حيلةٍ يا أخي إنْ كنت محتالا (١)

ولستَ حقًّا بهَوْل الموتِ مُنْقَلبًا … حتَّى تُعاينَ بعد الموتِ أهوالا

[وقد ذكر له الطبري صاحب التاريخ حكايات وواقعات، منها ما حكاه (٢) أن العباس بن محمد أهدى له غالية وكان عنده ابن أبي مريم الَّذي قال له لما قرأ الرشيد: ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ [يس: ٢٢]، فقال ابن مريم: ما أدري والله! وكان خَصيصًا به، فلما قدّم العباس بن محمد الغالية -وكانت في بَرْنِيَّة من فضَّة- فقال ابن أبي مريم: يا أمير المؤمنين هَبْها لي، فقال: خذها، فاغتاظ العباس وقال: ويلك، عَمَدتَ إلى شيء منعتُه نفسي، وخَصَصْتُ به أمير المؤمنين فأخذتَه؟! فقال ابن أبي مريم: أمُّه فاعلة إن دَهَن به إلا استَه، ثم وثب فألقى قميصه على رأسه، وأدخل يده في البَرْنيَّة، وجعل يُخرج منها ويطلي استَه وأرفاغه ومثانته ويُسوِّد بها وجهه، والرشيد يضحك، ثم قال لغلامه: اذهب بهذه البرنية إلى فلانة امرأته، وقل لها: ادهني بها حِرَك إلى أن آتي فأفعل وأصنع، وذكر النون. ثم ذكر في آخر هذه الحكاية أن الرشيد وصل ابن أبي مريم بمئة ألف درهم.

ومنها ما حكاه ابن أبي مريم هذا قال: أراد الرشيد أن يشرب دواء فقلتُ: هل لك أن تجعلني غدًا حاجبك وكل شيء أكسبه بيني وبينك؟ قال: نعم. فأرسل هارون إلى الحاجب: الزم غدًا منزلك فإني وَلَّيتُ حجابتي اليوم ابن أبي مريم، وشرب الدواء، وجلس ابن أبي مريم على الباب، وجاء رسول أم جعفر ورسول يحيى بن خالد ورسول جعفر والفضل بن يحيى، فأخبرهم أن هارون ولّاه حاجبًا، فأرسلوا إليه بأموال وصِلات بلغت ستين ألف دينار، فلما فرغ الرشيد من شرب الدواء استدعاه وقال: ما


(١) روايته في الديوان ص ٣٠٢:
للموت غول فكن ما عشت ملتمسًا … من غوله حيلة إن كنت محتالًا
(٢) في تاريخه ٨/ ٣٤٩ - ٣٥٠.