للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وروى أبو نُعيمِ [أيضًا] عنه قال (١): كنت أُكثر الخروجَ إلى البادية في طلب الشِّعر، فلقيني أعرابيٌّ فقال: ما تقول في امرأةٍ تحيض يومًا وتطهر يومًا؟ فقلت: لا أدري، فقال: يا ابنَ أخي، ارجع فاطلب الفريضةَ وَدَعِ النافلة، فهو أَولى بك. فخرجت إلى مالك بنِ أنس، فقرأت عليه "الموطَّأ" حفظًا، فقال لي: قد آن لك أن تُفتيَ الناس.

[وحكى أبو نُعيم عن الرَّبيع عن الشافعي] (٢) قال: كنت في الكتَّاب أسمع المعلمَ يلقِّن الصبيَّ الآية، فأحفظها، فإلى أن يفرغَ المعلِّم من الإملاء عليهم قد حفظت كلَّ ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحلُّ لي أن آخذَ منك شيئًا.

ثم خرجت إلى بادية مكَّة، فلزمت هُذيلًا، فكنت أتعلَّم لغتَها وآخذ من طبعها، وكانوا أفصحَ العرب، فبقيت عندهم سبعةَ عشرَ سنة، أرتحل لرحيلهم وأنزل لنزولهم، ثم رجعت إلى مكَّة، فكنت أُنشد الأشعارَ وأذكر أيامَ العرب وفنونَ الأدب، فمرَّ بي رجلٌ من آل الزُّبير فقال لي: يا أبا عبدِ الله، عزَّ عليَّ ألا يكونَ مع هذه الفصاحة والذكاء فقه، فتكون قد سدتَ أهل زمانك، قلت: ومَن بقي يُقصد؟ قال: مالكُ بن أنس سيِّد المسلمين اليوم، فوقع كلامُه في قلبي، فعمدت إلى "الموطَّأ" فحفظته في تسع ليال، ثم أخذت كتابَ والي مكةَ إلى والي المدينةِ وإلى مالك بنِ أنس، فقدمت المدينة، فناولت واليَها الكتاب، فقرأه وقال: واللهِ إنَّ مشيتي من المدينة إلى مكةَ راجلًا أهونُ عليَّ من المشي إلى باب مالك، فإني لست أرى الذُّلَّ حتى أقفَ ببابه.

ثم قام معي إلى باب مالكِ وطلبنا الإذنَ عليه، فخرجت جاريةٌ سوداءُ فقالت: إنَّ مولاي يقرأ عليك السلامَ ويقول: إنْ كانت مسألة فارفعوها في رقعةٍ ليخرجَ إليكم الجواب، وإن كنتم قد جئتم للحديث فقد عرفتم يومَ الخميس، [قال:] فقلنا لها: قولي له: معنا كتابٌ من والي مكةَ في حاجة مهمَّة، فدخلت ثم خرجت وبيدها كُرسيّ، فوضعته، ثم خرج مالكٌ وعليه المهابةُ والوقار، شيخٌ طويل مستوي اللحيةِ عليه طَيلسان، فدفع الوالي إليه كتابَ والي مكَّة، فقرأه حتى بلغ إلى قوله: هذا رجلٌ حاله كذا وكذا فتحدِّثه، فرمى الكتابَ من يده وقال: سبحانَ الله! وصار علمُ رسولِ الله


(١) لم نقف عليه في الحلية، وأورده ابن عساكر في تاريخ دمشق ٦٠/ ٤٠٩.
(٢) ما بين حاصرتين من (ب)، ولم نقف على الكلام في الحلية، وأورده ابن عساكر في تاريخ دمشق ٦٠/ ٤٠٣.