للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اصبرْ عليَّ إلى الليل، فقال: وكيف آمن؟ فتنكَّرْ واخْرُج.

[قال:] (١) فأخذتُ من لحيتي وغطَّيت رأسي، وخرجت قبيلَ العصرِ ومضيت في الشارع إلى الجسر، فوجدته خاليًا، فلما توسَّطته إذا بفارسٍ من الجند الذين كانوا يتناوبون في داري أيامَ وزارتي، فعرفني وقال: هذا طَلِبة أميرِ المُؤْمنين، وعدل إليَّ ليقبضَ عليَّ، فمن حلاوة الرُّوحِ دفعته ودابَّتَه، فوقع في بعض سفنِ الجسر، وأسرع النَّاسُ لتخليصه، وظنَّوه قد زَلقَ بنفسه، ومشيت أنا من غير عَدْوٍ؛ لئلَّا ينكرَ عليَّ أحد، فدخلت دربَ سليمان، وإذا باب مفتوحٍ وفيه امرأة، فقلت لها: أنا خائفٌ من القتل، فأَجيريني واحقُني دمي، فقالت: ادخل، وأومأتْ إلى غرفة، فصعدتُها، فما استقرَّ بي المنزلُ حتَّى دقَّ الباب، ففتحتْ، وإذا بأناسٍ يحملون رجلًا، فدخلوا به، وإذا هو الجنديُّ صاحبي، وهو مشدودُ الرأس من شجَّة فيه وهو يتأوَّه، فقالت له المرأة: ما لَك؟ فأخبرها خبري، وقال: فاتني الغنى الأكبر، وعطبتْ فرسي فما تُباع إلَّا لحمًا، وجعل يشتمِني ولا يعلم أنّي في الدار، فقالت له المرأة: احمدْ ربَّك؛ فقد حفظك ولم يجعلك سببًا في سفك دمِه.

فلمَّا جاء الليل، صعدت المرأةُ إليَّ وقالت: أظنُّك صاحبَ القصَّة مع هذا الرَّجل، فقلت: نعم، قالت: قد سمعتَ ما عنده، فاتَّقِ الله في نفسك واخْرُج [قال:] (٢) فدعوتُ لها وخرجت، ومشيتُ ساعة، وإذا برجلٍ يفتح بابًا، فدنوتُ منه وقلت: استرني ستركَ الله، فقال: ادخل، فدخلت وأقمتُ ليلتي، فخرج من الغد وعاد معه حمَّالان، على رأس أحدِهما حصيرٌ ومِخَدَّة وجِرارٌ وكيزانٌ وغضائر [جُدُد] وقِدْرٌ جديدة، وعلى رأس الآخر فاكهةٌ ولحم وثلج، فوضع الجميعَ في الدار، فنزلتُ [وعَذَلْته] وقلت: لمَ تكلَّفتَ هذا؟ فقال: أنا رجل مزيِّن، وأخاف أن تستقذرَني، وقد أتيتُك بهذا فاطبخْ كما تريد.

فأقمتُ عنده ثلاثًا، وقلت في الليلة الرابعة: الضيافةُ ثلاثة، وقد أحسنت، وإني أُريد أن أَخرج، فقال: لا تفعلْ، فأنا وحيد، ولست ممَّن يطرق بيتَه أحد، ولا تَخَفْ


(١) ما بين حاصرتين من (ب).
(٢) ما بين حاصرتين من (ب).