للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإن قيل: فلمَ منعه الرؤية؟ فالجواب من وجوه.

أحدها: أنه ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ خرج جوابًا لموسى، لأنه سأل ما لم يكن في الدنيا فأخبره بالمستحيل.

والثاني: أنَّ الرؤية غاية الكرامة ومنتهى المنزلة إذ ليس بعدها منزلة فلو حصلت في الدنيا لموسى لم يبقَ لها في الجنة التي هي دار الكرامة معنى، فإذا كان يوم القيامة أكرم الله بها أكرمَ عبادِه، وهو محمد ، وقد قال : "أنا أوَّلُ مَن يطرقُ بَابَ الجنَّة" (١) و"الجنَّةُ محرَّمة على الأنبِيَاءِ حتى أَدخُلَها" (٢). فكأنه يقول: لن تراني قبل محمد فلا تطمع فيما ليس لك.

وقال عبد الله بن المبارك: لما كانت الدنيا فانية، والأبصار فانية، والحق سبحانه باق، لم يحسن أن ينظر الفاني في الفاني إلى الباقي، فإذا كان يوم القيامة، خلق الله لنا دارًا باقية وأبصارًا باقية فننظر بالباقي إلى الباقي في الباقي.

وقال سهل بن عبد الله: قيل له: يا موسى، بالأمس تسألني نصف رغيف وتقول: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤] واليوم تسألني الرؤية؟ لن تراني.

وقال علي بن مهدي: لو كان سؤال موسى الرؤية مستحيلًا لما أقدم عليه مع علمه ومعرفته بالله فدل على الجواز.

وقال قوم: لما علَّق الرؤية باستقرار الجبل دل على الجواز، ولأن استقراره غير محال.

فإن قيل: فلم صار الجبل دكًا لما رآه، وقلوب المؤمنين تراه دائمًا ولا تندك؟ قلنا: جعل الله الجبل ندًا لموسى لأنه جماد، والقلوب بيوت الحقِّ ، والساكن لا يخرب بيته.

فإن قيل: فقد أحاله على الجبل تعليقًا للرؤية بثبات الجبل ولم يثبت فموسى أولى. وجواب من أحيل على مليءٍ ﴿فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ وقد تعلق نُفاةُ الرؤية بقوله تعالى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ وقال: هي للأبد، ونحن نقول: هي للوقت دون الأبد، ألا ترى إلى قوله تعالى


(١) أخرجه مسلم (١٩٦).
(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (٣٢٤٦٢) من حديث مكحول مرسلًا.