للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال: لمَّا صعدتُ من زَلَّالك قصدت داري، فرأيت حائطَها كما تركته، إلا أنَّ الباب قد غُيِّر بباب مَجلوٍّ نظيف، وعليه بوَّاب، فقلت: إنَّا لله، ماتت جاريتي وملك الدارَ بعضُ الجيران فباعها على رجلٍ من أصحاب السلطان، ثمَّ تقدَّمتُ إلى دكَّان بقَّالٍ كنت أعرفه في المحلَّة، وإذا فيها غلامٌ حَدَث، فقلت: مَن تكون من فلانٍ البقَّال؟ فقال: ابنُه، قلت: ومتى مات أبوك؟ قال: منذ عشرين سنة، قلت: ولمن هذه الدار؟ قال: لابن دايةِ أمير المؤمنين، وهو الآن جِهْبِذُه (١) وصاحبُ بيت ماله، قلت: فبمن يُعرف؟ قال: بابن فلانٍ الصَّيرفي، فذكر اسمي، قلت: فهل يعيش أبوه؟ فقال: كان رجلًا جليلًا فافتقر، وإنَّ أمَّ هذا الصبيِّ ضربها الطَّلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئًا، ففُقد وهلك. قال لي أبي: فجاءني رسولُ هذه المرأةِ يستغيث بي، فقمت لها بحوائج الولادة، ودفعت إليها عشرةَ دراهم، فأنفقتها، فقيل: وُلد لأمير المؤمنين الرشيدِ وَلَدٌ ذَكَر، وقد عرض عليه الداياتِ فلم يقبل ثديَ امرأة، قال أبي: فأرشدتُ الذي كان يطلب الداياتِ إلى أمِّ هذا، فحُملت إلى دار أميرِ المؤمنين الرشيد، فحين وُضع فمُ الصبيِّ على ثديها قَبِلَه، فأَرضعته، وكان الصبيُّ المأمون، ونشأ الصبيُّ وصار عندهم في حالةٍ جليلة، ووصل إليه منهم أموالٌ عظيمة.

ثمَّ خرج المأمونُ إلى خُراسان، فخرجت هذه المرأةُ وابنُها معها، ولم نعرفْ من أخبارهم شيئًا إلا منذ قريبٍ، لمَّا عاد المأمونُ من خُراسانَ وعادت حاشيتُه معه، رأينا هذا قد صار رجلًا، ولم أكن رأيته قطّ، فقيل: هذا ابنُ كان الصيرفيِّ وابنُ دايةِ أميرِ المؤمنين، فبنى هذه الدارَ وسوَّاها.

قلت: فهل عندك علمٌ من أمّه أَحيَّةٌ هي أم ميِّتة؟ قال: حيَّة، تمضي إلى دار الخليفةِ فتكون عندهم أيامًا، وتأتي إلى ابنها فتكون عنده أيامًا، قال: فحمدتُ اللهَ على هذه الحالة، وجئت فدخلت مع الناس إلى الدار وقد تغيَّرت عمارتها، وفيها مجلسٌ كبير مفروش، وفي صدره شابّ، وبين يديه كتَّابٌ وجهابذةٌ وأموال وشواهين (٢)، وهم يَقبَضُون ويُقبِضُون، ورأيت شَبَهي في الغلام، فعلمت أنَّه ابني، فجلست في غِمار


(١) الجهبذ: النقاد الخبير.
(٢) الشاهين: عمود الميزان. القاموس (الشاهين).