للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الناسِ إلى أن لم يبقَ في المجلس غيري، فأَقبل عليَّ وقال: يا شيخ، هل من حاجة؟

قلت: نعم، ولكنها أمرٌ لا يجوز أن يسمعَها غيرك، فأشار إلى الغِلمان فتأخَّروا، فقلت: أنا أبوك، فلمَّا سمع ذلك تغيَّر وجهه، ولم ينطقْ بحركة ولا بحرفٍ واحد، وقام مسرعًا وتركني في مكان، فلم أَشعرْ إلا بخادمٍ قد جاء وقال: قم يا سيِّدي، فقمت أمشي، فبلغت إلى سِتارة ممدودةٍ في دارٍ لطيفة، وكرسيٌّ بين يديها والفتى جالسٌ عليه، وكرسيٌّ آخَر، فقال: اجلسْ أيها الشيخ، فجلست وقلت: أظنُّك تريد أن تعتبرَ (١) صدقَ قولي من جهة فلانة، وذكرتُ اسمَ جاريتي، وإذا بالسِّتارة قد هُتكت وخرجت الجاريةُ فأَلقت نفسَها عليّ، وجعلت تبكي وتقول: مولاي والله، وقام الفتى وخرج، والجاريةُ تبكي وتقول: حدِّثْني حديثَك، فحدَّثتها حديثي من يومِ فارقتُها إلى ذلك اليوم، وجاء خادمٌ فقال: يا مولاي، ولدُك يسألك أن تخرج إليه، فخرجت إليه، فلمَّا رآني من بعيدٍ قام قائمًا وقال: العذرُ إلى الله وإليك يا أَبَهْ من تقصيري في حقِّك، فإنَّه قد جاءني ما لم أظنَّ أن يكونَ مثلُه، والآن فهذه النعمةُ لك، وأنا ولدُك، وأميرُ المؤمنين يجتهد لي منذ دهرٍ طويل أن أدعَ الجِهبذةَ وأتوفَّرَ على خدمته، فلا أفعلُ طمعًا للتمسُّك بصَنعتي، والآن فأنا أسأله أن يردَّ إليك عملي، وأخدمه أنا في غيره، قم عاجلًا فأَصلِحْ أمرَك.

فدخلت الحمَّام وتنظَّفت، وجاؤوني بخِلعة فلبستها، ثمَّ أَدخلني على أمير المؤمنين وحدَّثه بحديثي، فأمر لي بخِلعة، فهي هذه، وردَّ إليَّ العملَ الذي كان إلى ابني، وأمر لي من الرِّزق بكذا وكذا، وقلَّد ابني أعمالًا هي أجلُّ من عمله، فجئت أشكرك على ما عاملتَني به من الجميل، وأعرِّفك تجدُّدَ النعمة.

قال عَمرو: فلما سمَّى لي الفتى عرفته، وعلمت أنَّه ابن دايةِ أمير المؤمنين.

واستبطأ المأمونُ عَمرَو بنَ مسعدةَ في أشياء، وكان أحمدُ بن أبي خالدٍ حاضرًا، فأخبر عَمرًا بذلك، فدخل على المأمون ورمى سيفَه وقال: أنا عائذٌ بالله من سخط أميرِ المؤمنين، فقال له: وما ذاك؟! فأخبره بما قال أحمد، فاستحيى منه، فلما خرج دخل أحمد، فقال له المأمون: أما لمجلسي حرمة! أشكو إليك خادمي سرًّا فترفعه إليه،


(١) في المنتظم والفرج: تختبر.