للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السِّنِّ على هذه الصورةِ التي ترى، وقد أحرقتني الشمسُ وكادت تُتلفني، وأريد جَبُّل، فاحملوني معكم، فإنَّ اللهَ يُحسن أَجرَ صاحبكم، فشتمه الملَّاح وانتهره، فأدركتني رِقَّة عليه، فقلت للغلام: خذوه معنا، فحملناه، فتقدَّمت بأن يُدفَعَ إليه قميصٌ ومنديل، وغسل وجهَه واستراح، وحضر وقتُ الغداء، فقلت للغلام: هاتِه يأكلْ معنا، فجاء فأكل أكلَ أديب، غير أنَّ الجوع بيَّن عليه، فلمَّا أكلنا قلت: يا شيخ، أيُّ شيءٍ صناعتُك؟ قال: حائك، فتناومتُ عليه ومددتُ رِجلي، فقال: وأنت أعزَّك اللهُ أيُّ شيءٍ صناعتُك؟ فأَكبرت ذلك وقلت: أنا جَنَيتُ على نفسي، أَتُراه لا يرى زلَّالي وغِلماني ونعمتي وأنَّ مثلي لا يقال له هذا! [قلت:] ليس إلَّا الهَزْلُ (١) بهذا، فقلت: كاتب، فقال: أصلحك الله، إنَّ الكُتَّاب خمسة، فأيُّهم أنت؟

فسمعت كلمةً أكبرتها، وكنت متّكئًا فجلست، ثمَّ قلت: فصِّل الخمسة، قال: نعم، كاتبُ خَراج: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالشُّروط والطُّسوق (٢) والحسابِ والمساحة والبُثوق والفُتوق والرُّتوق، وكاتبُ أحكامٍ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالحلال والحرامِ والاختلاف والأُصول والفروع، وكاتب معونةٍ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالقصاص والحدودِ والجِراحات، وكاتبُ جيشٍ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بحُلي الرِّجال وسِمات الدوابِّ ومداراةِ الأولياءِ وشيءٍ من العلم بالنَّسب والحساب، وكاتبُ رسائلَ: يحتاج أن يكونَ عالمًا بالصُّدور والفصول والإِطالة والإيجاز وحُسنِ الخطِّ والبلاغة [فما أنت من هؤلاء؟!].

فقلت له: فإني كاتبُ رسائل، فقال: أَصلحك الله، لو أنَّ رجلًا من إخوانك تزوَّجتْ أمُّه فأردتَ أن تكاتبَه مهنِّئًا، كيف كنت تكاتبه؟ ففكَّرت في الحال، فلم يخطرْ ببالي شيء، فقلت: ما أرى للتهنئة وجهًا، قال: فكيف تكتب إليه تعزِّيه؟ ففكرت فلم يخطرْ ببالي شيء، فقلت: أَعفِني، قال: قد فعلت، ولكنك لستَ بكاتب رسائل، قلت: فأنا كاتبُ خَرَاج، قال: لو أنَّ أميرَ المؤمنين ولَّاك ناحيةً وأمرك فيها بالعدل واستيفاءِ حقِّ السلطان، فتظلَّم إليك بعضُهم من مسَّاحك، وأحضرتَهم للنظر بينهم وبين


(١) في (ب): الزهد، وما بين حاصرتين منها، والمثبت من (خ).
(٢) الطسق: مكيال، وما يوضع من الخراج على الجريب. معجم متن اللغة (طسق).