للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

جميع الأقطارِ والآفاق، أهلُ جهالة بالله وعمًى عنه، وضلالةٍ عن حقيقة دينِه وتوحيده والإيمانِ به، وما قَدَروا اللهَ حقَّ قَدْرِه، ولا عرفوه كُنْهَ معرفته، ولا فرَّقوا بينه وبين خلقِه؛ لضعفِ آرائهم ونقصِ عقولهم، فإنهم ساوَوا بين اللهِ تعالى وبين ما أَنزل من القرآن، أَطبقوا أجمعين، واتَّفقوا غيرَ متعاجمين، على أنَّه أوَّلٌ قديمٌ لم يخلقه اللهُ ولم يُحدثه ولم يخترعْه، وقد قال اللهُ تعالى في كتابه الذي جعله شفاءً لما في الصدور، وهدىً ورحمةً للمؤمنين: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [الزخرف: ٣] وكلُّ ما جعله فقد خلقه، وقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾ [الأنعام: ١] وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾ [طه: ٩٩] فأخبر أنَّه قَصَّ لأمورٍ أَحدثه بعدها وتلا به متقدِّمها، وقال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ [هود: ١] وكلُّ مُحْكَم مفصَّل [فله مُحكم مفصِّل] (١) واللهُ تعالى مُحكمٌ كتابَه ومفصِّلُه، وخالقُه ومبتدعُه، ثمَّ هم الذين جادلوا بالباطل ودعَوا إلى قولهم، ونسبوا نفوسَهم إلى السُّنَّة، ثمَّ زعموا أنهم أهلُ السُّنة والجماعة، وأنَّ مَن سواهم على الباطل، فاستطالوا بذلك على الناس، وغرُّوا به الجهَّال، فمال قومٌ من أهل السَّمْتِ الكاذبِ والتخشُّع الباطل والتقشُّفِ لغير الدِّين إلى موافقتهم، ومواطأتِهم على سيِّئ آرائهم، تزيينًا (٢) بذلك عندهم وتصنُّعًا للرِّئاسة. وذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى.

قال المصنِّف رحمه الله تعالى: لم تُعرف هذه المقالةُ قبل المأمون، وقد كان اجتماعُ الصحابةِ والتابعين والسَّلفِ الماضين على أنَّ كلامَ اللهِ تعالى قديمٌ أَزَليٌّ غيرُ مخلوق ولا مُحدَث، حتى نبغ ابنُ أبي دُؤاد، فجسَر المأمونُ على هذه المقالة، وتبعته المعتزلةُ من أهل البصرة وبغدادَ وبِشرٌ المَرِيسي، فقالوا: إنَّه مخلوق، وحملوا الخواصَّ والعوامَّ على ذلك، فعرض إسحاقُ بن إبراهيمَ كتابَ المأمونِ على العلماء ببغداد، فمنهم مَن أجاب ومنهم مَن توقَّف، فكتب إلى المأمون يعرِّفه، فكتب إليه: اِبعث إليَّ نَفَرًا منهم، وذكر سبعةً (٣) من العلماء: محمدَ بن سعدٍ كاتبَ الواقدي، وأبا


(١) ما بين حاصرتين من تاريخ الطبري ٨/ ٦٣٢.
(٢) في تاريخ الطبري: تزينًا.
(٣) في (ف): تسعة. وهو خطأ. انظر تاريخ الطبري، والمنتظم ١١/ ١٨، والكامل ٦/ ٤٢٣.