للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أنَّ الذي عطش المأمون.

قال يحيى:] وكان لا يَدَعُني أَسقيه ويقول: استخدامُ الرجل ضيفه لؤم، ويقوم هو فيشرب، فأقول له: أَلَا أُوقظ الخدم؟ فيقول: لا، هم نيام، وقد تعبوا في الخدمة، وإنِّي لَأكون في المتوضَّأ فأَسمعهم يشتموني فأَعفو عنهم.

قال [يحيى:] (١) وَبِتُّ عنده ليلة، فأخذه سعال، فجعل يسدُّ فاهُ بكمِّه لئلا أنتبه.

وقال: كنت معه في بستانٍ ونحن نتساير، وأنا في الشمس وهو في الظِّلّ، فلمَّا رجعنا، تحوَّل إلى الشمس وقال: سِرْ في الظِّل، فقلت: أميرُ المؤمنين أَوْلى بذلك منِّي؛ لأنك ظلُّ اللهِ في الأرض، فقال: الواجبُ على الملك العدلُ في بِطانته أوَّلًا، ثمَّ في الذين يلونهم، ثمَّ في الذين يلونهم، حتى بلغ إلى الطَّبقة السُّفلى.

وقال [يحيى]: كان المأمونُ يَحلُم حتى يَغيظَنا، جلس يومًا على جانب دجلةَ يتسوَّك عند دخولِه إلى بغداد، وعنده جماعةٌ من العلماء والقوّاد والأَشراف، وإذا بملَّاح في سفينة عتيقةٍ يدخل الماءُ من جوانبها، وعليه ثوبٌ خَلَق، وهو يصيح بأعلى صوتِه: أتظنُّون أنَّ هذا [المأمون] يَنبُل في عيني وقد قتل أخاه الأمين! قال: فسمعه المأمون، فتبسَّم والتفتَ إلينا وقال: ما الحيلةُ عندكم حتى أَنبُلَ في عين هذا السَّيِّد الجليل؟

و [قال إبراهيمُ بن سعيدٍ الجوهري:] وقف رجلٌ بين يدي المأمونِ وقد جنى جناية، فقال له: واللهِ لأَقتلنَّك، فقال: يا أميرَ المؤمنين، تأنَّ عليّ؛ فإنَّ التأنِّيَ نصفُ العفو. فقال: وكيف وقد حلفتُ، فقال: لَأَن تلقى اللهَ حانثًا خيرٌ لك من أن تلقاه قاتلًا، فعفا عنه.

وقال لإسحاقَ بن العباس: لا تحسبني أغفلتُ إِجلابَك مع ابن المهديِّ وتأييدَك لرأيه وإِيقادَك لناره، فقال: يا أميرَ المؤمنين، لَإجرامُ قريشٍ إلى رسول اللهِ أَعظمُ من إجرامي إليك، ولَرَحِمي أمسُّ من أرحامهم، وقد قال لهم يومَ الفتح: لا تثريبَ عليكم اليوم (٢)، وأنت وارثُ ابنِ عمِّ رسولِ الله ، فأنت أحقُّ بهذه المِنَّة، فقال: هيهات، تلك أجرامٌ جاهلية عفا الإِسلامُ عنها، فقال إسحاق: واللهِ، المسلمُ بإِقالة


(١) ما بين حاصرتين من (ب).
(٢) أخرجه النسائي في الكبرى (١١٢٣٤) من حديث أبي هريرة مطولًا.