للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

اسمعوا ما كان طعامُ أمير المؤمنين عمرَ بن الخطابِ ، عُراقُ (١) لحمِ الإِبل مطبوخٌ بماءٍ وملح، وأقراصٌ من شعيرٍ غيرِ منخول، فقيل له: لو أكلتَ غيرَ هذا الطعام، فقد وسَّع اللهُ عليك، فقال: إنَّ اللهَ عيَّر أقوامًا بأكلهم فقال: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾ الآية [الأحقاف: ٢٠].

ثم قال: عليَّ بسيرة عمرَ بن عبدِ العزيز رحمةُ الله عليه، فجعل يقرؤها ويصف عيشَه ويبكي، ثم أخرجَ ساعدًا مثلَ الفضَّة فقال: هذا الساعدُ يَبلى غدًا في التُّراب كما يبلَى ساعدُ الحمَّال، ثم صرف النُّدماءَ والغلمانَ وبقي وحده مفكِّرًا، فلما ذهب بعضُ الليل ناداني: يا شاكر، دونك والخزائنَ فاحفظها، فإني ذاهبٌ إلى سيِّدي، وأنا أظنُّ أنَّه يعني بسيِّده المأمون.

ثم خرج وعلى رأسه إِزار، وفي رِجله نعلان طاقان، وخلفه خادمٌ صغير، فلما ارتفع النهارُ عاد الخادمُ وحده، فقلت: أين الأمير؟ فقال: نزل في سفينةٍ مع ملَّاح وقال: احملني إلى واسط فلي حاجةٌ مهمَّة، وأَعطاه دنانير.

قال: ولمَّا علم به المأمونُ ضاقت عليه الدنيا، وكتب إلى جميع الآفاقِ والعمَّال أن يطلبَ وتوضعَ عليه العيون، فما وقف أحدٌ له على خَبَر.

قال: وأما علي، فإنَّه لما وصل إلى واسط، نزل البصرةَ وتنكَّر واشترى ثيابًا وطبقًا كهيئة الحمَّال، وجعل يحمل على عُنقه بالأُجرة بمقدار قُوته، ويظلُّ النهارَ صائمًا والليلَ قائمًا، يمشي حافيًا حتَّى تقطَّعت رِجلاه، يبيت في المساجد يتخلَّلها لئلَّا يُفطنَ به، فمرض، فاكترى غرفةً في بعض الخانات، وألقى نفسَه على بارِيَّة (٢)، فلما أَيِسَ من نفسه، دعا صاحبَ الخانِ وناوله رقعةً مختومةً وخاتَمًا وقال: إذا قضيتُ فادفع هذه الرُّقعة والخاتَمَ إلى والي البلد، ثم مات.

فجاء الرجلُ إلى دار الوالي وصاح: نصيحة، فأُدخل على الوالي فقال: ما نصيحتُك؟ فأراه الخاتَم، فعرفه، فقال: وأين صاحبُه؟ فقال: في الخان، في غرفةٍ


(١) العراق: العظم أُكل لحمه. القاموس المحيط (عرق).
(٢) البارية: الحصير المنسوج. القاموس المحيط (بور).