ميِّت. فقام الوالي فجاءَ إلى الخان، فرآه على تلك الحال، فبكى بكاءً شديدًا، وحوَّله إلى القصر، فغسَّله وطلاه بالكافور والمِسك والصَّبِر، ولفَّه في قَبَاطي مِصْر، وحمله في تابوتٍ إلى بغداد، وبعث بالخاتم والرُّقعة وعليها مكتوب: لا يفتحها إلَّا المأمون، وكتب إلى المأمون يُخبره بحاله ويقول: يا أميرَ المؤمنين، إنِّي وجدته في بعض الخاناتِ في غرفةٍ على بارِيَّة، ليس تحته فراشٌ ولا عنده نائحةٌ ولا باكية، مُغمضَ العينين، طيِّبَ الرائحة، مستنيرَ الوجه.
فلمَّا وصل تابوتُه إلى بغداد، خرج إليه المأمونُ والحاشيةُ والأشرافُ والخَدَم، فلما رأى التابوتَ قام قائمًا وكشف عن وجهه، وجعل يقبِّله ويبكي، وارتفعت الضَّجَّة، ثم فكَّ الرُّقعة، فإذا فيها بخطِّه: يا أميرَ المؤمنين، اقرأ سورةَ الفجرِ إلى أربعَ عشْرةَ آيةً منها واعتبرْ بها؛ فإنَّ اللهَ مع الذين اتَّقوا والذين هم مُحْسِنون.
وصلَّى عليه المأمون ومشى إلى قبره، فلمَّا وُضع فيه اطَّلع المأمونُ قيه فقال: رحمك اللهُ يا بُنَيّ، وأعطاك أمنيتَك ورجاءك، إنِّي لأرجو أن يكونَ اللهُ قد أسعدك ونفعني بك، فنعمَ الولدُ كنت، جمع اللهُ بيني وبينك، ورزقني الصَّبرَ عليك، وأَنالكَ شفاعةَ ابنِ عمِّك سيِّدنا محمدٍ ﷺ قال: والغبارُ قد علاه، والخدمُ حوله بالمناديل ينحُّون الغبارَ عنه، فقال: إليكم، تنحُّون الغبار عنِّي وعليٌّ يَبلَى في التراب! ثم دعا بمن قرأ سورةَ الفجرِ حتَّى بلغ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: ١٤] وهو يبكي ويقول: رحمك اللهُ يا بُنَيّ، فلقد نصحتَ أباك.
وتصدَّقَ عنه بألف ألفِ درهم، وأَطلق المحبوسين، وكتب إلى العمَّال بردِّ المظالم وإنصافِ الرَّعية، وما زال منغَّصَ العيش، والعلماءُ ينتابونه ويعزُّونه، وهو لا يقبل عزاءً، ويُصبِّرونه وهو لا يستطيع الصَّبر، وهو متكسرُ النفس، حزينُ القلب، قليلُ النشاط. فلم يزل على حاله تلك حتَّى توفِّي رحمه اللهُ تعالى.
ذِكرُ وزراءِ المأمون وحُجَّابِه وقُضاته:
أوَّل ما وَزَرَ له بخُراسانَ الفضلُ بن سهل، ثم أخوه الحسنُ بن سهل، ثم أحمدُ بن أبي خالد، وعَمرو بن مَسعدة.