للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

سفَّ الترابِ يقيمُ أصلابَهم لجعلوه مُسْكَة لأرماقهم؛ إيثارًا للتنزُّه عن عيشٍ رقيق الحواشي، فتحبَّب إلى النَّاس بتسهيلِ الحجاب، فإنَّ حيَّا عبادِ الله موصولٌ بحبِّ الله تعالى، وكذا بغضهم؛ لأنَّهم شهداء الله في أرضه، ورقباؤه على من اعوجَّ عن سبيله، فاعتذرَ عليه ووصله (١).

وقال محمَّد بن حامد: كان العمريُّ الشاعرُ عند المأمون، فأنشدَ بعضُ الحاضرين: [من الطَّويل]

إذا لم تَصُنْ عِرْضًا ولم تخشَ خالقًا … وتستحي مخلوقًا فما أنتَ صانعُ

فقال العمريُّ: لمن هذا؟ قال المأمون: لأبي دُلَف، فقال العمريُّ: والله لئن لقيتُه لأبولنَّ عليه.

فما استتمَّ كلامَه حتَّى دخل الحاجبُ فقال: القاسمُ على الباب، جاء من عند ابن طاهر، فأذِنَ له، فدخلَ فسلَّم عليه بالخلافة، فأحسنَ الردَّ، وقرَّبه، ورحَّبَ به، وقال: كيف خلَّفتَ أَبا العباس -يعني عبد الله بن طاهر- فقال: خلَّفتُه أمينَ غيبة، نقي الجيب، يتَّقي الرِّماح بصدره، والسهام بنحره في طاعة أمير المُؤْمنين، قامَ (٢) في الأمور على ساق التسهير (٣)، يردعُها بكيده، ويفلُّها بحدِّه، فهو في شجاعته كما قاد العباس بن مرداس: [من الوافر]

أَشُدُّ على الكتيبة لا أُبالي … أفيهَا كان حتفي أم سِوَاهَا

وفي سخائه كما قال زهير: [من الطَّويل]

تراه إذا ما جئتَه متهلِّلًا … كأنَّك تعطيه الذي أَنْتَ سائلُه (٤)

وفي عفَّته كما قال الأسود: [من الكامل]

وأغضُّ طرفيَ ما بدت لي جارتي … حتَّى يواري جارتي مأواهَا (٥)


(١) هذا الخبر أورده الجاحظ في البيان والتبيين ٢/ ٢٠١، وابن عبد ربه في العقد الفريد ١/ ٧٢، وابن خلكان في وفيات الأعيان ٤/ ٨٩، وفيها أن الموعوظ هو سعيد بن سلم والي إرمينية.
(٢) في (ف): فأقام.
(٣) في (ف): ساقي التشهير.
(٤) ديوان زهير ص ١٤٢.
(٥) ديوان عنترة ص ٣٠٨ (طبعة المكتب الإِسلامي).