للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقال الجنيد: مرَّ بي يومًا وأنا جالسٌ على الباب، فرأيتُ في وجهه أثرَ الجوع، فقلت: يا عم، لو ملتَ إلينا، فدخلَ الدار، فقمتُ ودخلتُ بيتَ عمي، فأتيتُه بأنواع الأطعمة من عرسٍ حُمِلَ إليهم، فمدَّ يده فأخذ لقمةً فدفعها (١) إلى فيه، وجعل يلوكها [ولا] يزدردُها، وقام وخرج وما كلَّمني، فلقيتُه من الغد، فقلت له: يا عم، سررتني ثم نغصتني، فقال: يا بنيّ، أمَّا الفاقة فكانت [شديدة، وقد اجتهدتُ في أن أنال من الطعام الذي قدَّمته إليَّ، ولكن] (٢) بيني وبين الله علامةٌ، إذا لم يكن الطعام مرضيًّا، ارتفع إلى أنفي منه زفرةٌ (٣)، فأصابني أمس كذلك، وقد رميتُ اللقمةَ في دهليزكم وخرجت، فقدَّمتُ إليه كسرًا يابسةً، فأكلَ منها، وقال: إذا قَدَّمت إلى فقيرٍ منها شيئًا، فقدِّم مثلَ هذا.

ذكر نبدة من كلامه

قال: ثلاثةٌ عزيزةٌ أو معدومة؛ حسنُ الوجه مع الصِّيانة، وحسن الخُلُق مع الدِّيانة، وحسنُ الإخاءِ مع الأمانة.

وقال: العلمُ يورِثُ المخافة، والزهد يورث [الراحة] (٤)، والمعرفةُ تورث الإنابة. وخيارُ هذه الأمَّة الذين لا تشغلهم آخرتُهم عن دُنياهم، ولا دنياهُم عن آخرتهم. ومن حَسُنت معاملتُه في الظاهر مع جهد باطنه، أورثَه الله الهداية إليه؛ لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: ٦٩].

وقال الجنيد: كنتُ أقولُ كثيرًا: عزلتي أنسي، فقال لي الحارث: كم تقول هذا؟! لو أنَّ نصفَ الخلق قَرُبوا منِّي ما وجدتُ بهم أنسًا، ولو أنَّ النصفَ الآخر نأوا عنِّي ما استوحشتُ لبعدهم.


(١) في المصادر: فرفعها.
(٢) ما بين حاصرتين من حلية الأولياء ١٠/ ٧٥، وتاريخ بغداد ٩/ ١٠٨ وغيرها.
(٣) في المصادر: زفورة.
(٤) ما بين حاصرتين من طبقات الصوفية ص ٥٨، وحلية الأولياء ١٠/ ٧٥، ومناقب الأبرار ١/ ١٦٦. ومكانها في (ف): بياض، وقوله: والزهد يورث الراحة. ليس في (خ).