للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولا خيرَ في الشَّكوى إلى غير مشتكى … ولا بدَّ من شكوى إذا لم يكن صبرُ

ثم ناداه: يا أبا الفيض، أَمِنَ القلوب قلوبٌ تستغفرُ قبلَ أن تذنب؟ قال: نعم، وتلك القلوب تثابُ قبل أن تطيع، فقال سعدون: بيِّن ما تقول، فقال: نعم تلك القلوبُ أشرقت بمصابيح اليقين، ففاضت عليها أنوارُ الحقِّ سبحانه، فكشفَ لها عن حقائق الأمور، أنِسَت بمحبوبها، فاستوحشَتْ بمن سواه، فصاح سعدون، وولَّى هاربًا.

وقال ذو النون: وُصِفَ لي عابدٌّ بالمغرب، فقصدتُه وأقمتُ على بابه أربعين يومًا، وهو يخرجُ إلى الصلاة، ويعودُ إلى منزله، ولا يكلِّم أحدًا، فقلت له بعد الأربعين: يا هذا، إنِّي أتيتُك من بلادٍ بعيدة، ولي واقفٌ على بابك أربعين يومًا، ما كلَّمتني كلمة، فقال: يا هذا إنَّ لساني سبُع، إن أطلقتُه قتلني، فقلت: أوصني وصيةً أنتفعُ بها، قال: لا تحب الدنيا، وعدَّ الفقرَ غنى، والبلاءَ نعمةً، والمنعَ عطاءً، والوحدةَ أنسًا، والذلَّ عزًّا، والحياةَ موتًا، والتوكُّلَ معاشًا، واللهَ تعالى في كلِّ شيءٍ عُدَّةً، فقلت: فما وصف العارف (١)؟ قال: قوتُه ما وجد، ومنزلُه حيث أدرك، ولباسه ما سترَ، الخلوةُ مجلسُه، والقرآنُ أنيسُه، والحقُّ سبحانَه جليسُه، والذكرُ رفيقُه، والزهدُ قرينُه، والخوفُ محجَّتُه، والشوقُ راحلتُه، والصبرُ وسادُه، والحكمةُ كلامُه، والصديقون إخوانُه، والعقلُ دليلُه، والحلمُ خليله، والله تعالى عونه.

وكان ذو النون ينشد: [من الكامل]

عجبًا لقلبكَ كيف لا يتصدَّعُ … ولركن جسمِك كيفَ لا يتَضَعْضَعُ

فاكحل بمُلْمُول (٢) السُّهادِ لدى الدُّجى … إنْ كنتَ تفهمُ ما أقولُ وتسمعُ

منعَ القرانُ بوعده ووعيدِه … نومَ العيون فليتَها ما تهجعُ

وأنشد أيضًا: [من الطويل]

يجولُ الغنى والعزُّ في كلِّ موطنٍ … ليستوطنَا قلبَ امرئٍ إن توكَّلَا

ومن يتوكَّل كان مولاه حسبَه … وكان له فيما يحاولُ معقلَا


(١) في مناقب الأبرار ١/ ١١٤ أنه مكث شهرًا، ثم سأله أن يزيده من الموعظة.
(٢) في (خ) و (ت) ومناقب الأبرار ١/ ٩٠: بملول. والمثبت من حلية الأولياء ٩/ ٣٧٧، والمُلمُول: الميلُ الذي يُكْتحَل به. مختار الصحاح (ملل).