للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ودخل شهرُ رمضان، وعزمَ المتوكِّلُ أن يصلِّي بالناس آخر جمعةٍ منه بسامراء، فاجتمعَ الناس من بغداد، وحشد بنو هاشم وغيرهم لرفعِ القِصص وكلامِه إذا ركب، فقال له الفتح بن خاقان (١): يا أميرَ المؤمنين، قد اجتمع الناس للقصص من كل مكان، وأنت تشكو ضيقَ الصدر، فإن رأيتَ أن تأمر بعض ولاة العهود أن يصلي بالناس فافعل، فقال: من ترون لها؟ وكانوا قد عرفوا ميلَه إلى المعتزِّ، فأشاروا به وقالوا: شرِّفه في هذا اليوم بالنيابة عنك، فقال: نعم، وبلغ المنتصر وهو مقيمٌ في منزله بالجعفرية، فكان ذلك ممَّا زاد في إغرائه بأبيه.

وركبَ المعتزُّ والفتح معه وجميعُ القوَّاد والخاصة والعامة، فصعدَ المنبر فخطبَ آخر جمعة في رمضان، فأحسن في خطبته وقراءته، ولمَّا فرغ من الصلاة انصرفَ بين يديه داود بن محمد بن أبي العباس الطوسيّ، فقال داود: يا أمير المؤمنين، لقد رأيتُ الأمين والمأمون والمعتصم والواثق على المنبر، فوالله ما رأيتُ أحسنَ قوامًا، ولا أحسن بديهةً، ولا أجهرَ صوتًا، ولا أعذب لسانًا، ولا أفصح من المعتز، فأعزَّه الله بك، وأيَّده ببقائك، فقال له المتوكِّل: أسمعكَ الله خيرًا، وأمتعنا بك (٢).

فلمَّا كان يوم الفطر، وهو يوم الأحد، وجد المتوكل فترةً، فقال: مروا المنتصرَ فليصلِّ بالناس، فقال له عبيد الله بن يحيى بن خاقان: يا أميرَ المؤمنين، قد كان الناس يتطلَّعون إلى رؤيتك في يوم الجمعة واحتشدوا، فلم تركب، وإن لم تركب اليوم ويراك الناس، لا نأمنُ أن يُرجِفوا بمرضك، وتختلَّ الأمور، فإن رأيتَ أن تَسُرَّ الأولياء بركوبك، وتكبتَ الأعداء، فافعل.

فركبَ في يوم الفطر وقد ضُرِبت له القباب (٣)، واجتمعت العساكر والقوَّاد، وترجَّلَ الناس ومشوا بين يديه نحوًا من أربعة أميال، وكان يومًا عظيمًا لم يُرَ في الإسلام مثلُه، ولا بعده، فلمَّا عاد إلى قصرِه أخذ حفنةً من تراب فوضعها على رأسه، فقيل له في ذلك،


(١) في تاريخ الطبري ٩/ ٢٢٢: فقاله له عبيد الله بن يحيى والفتح بن خاقان.
(٢) انظر تاريخ الطبري ٩/ ٢٢٢ - ٢٢٣.
(٣) في تاريخ الطبري ٩/ ٢٢٣: وقد ضربت له المصافّ.